هذا شرح لحديث "كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد"، للختم الأكبر أبي الفيض سيدي محمد بن عبد الكبير الكتاني الشهيد، قدس سره، من سماعات العلامة عبد السلام ابن المعطي العمراني الحسني، التي دونها في رحلته: "اللؤلؤة الفاشية في الرحلة الحجازية"..
قال العمراني رحمه الله تعالى:
شرح حديث: "كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد":
وفي هذا المجلس سمعته - رضي الله عنه - يقول في حديث: "كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد" قائلا: "هذه الرواية هي الصحيحة". وأما رواية : "وآدم بين الماء والطين" وكذا رواية: "وآدم منجدل في طينته"؛ فكلتاهما لم تثبث، وإن كان المعنى واحدا. مانصه: "إن هذا الحديث الشريف من أمهات الكمالات المحمدية، كما أن حديث الإيمان والإسلام والإحسان من أمهات الشريعة المطهرة".
قال رضي الله عنه: "ولي فيه تقرير حسن بلسان قدسي، وهو إما أن يكون من النبأ – وهوالخبر - فيكون النبي فعيلا بمعنى اسم المفعول، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم مخبَرا من قبل الحق سبحانه في ذلك الوقت، ولاآدم ولاسماء، ولا أرض ولا زمان [ولا مكان]، والمخبَر به أضرب:
"إما ما يرجع للذات الأقدس، أو للأسماء الإلهية، أو للصفات، أو للأفعال، أو الشؤون الإلهية، أو بما يتعلق به صلى الله عليه وسلم، وبالأنبياء والمرسلين، أو بأممهم، أو بالكتب السماوية، أو بالملائكة، أو أحكام الشرائع، أو الكتاب العزيز. فهذه تسعة أضرب لايخرج المخبَر عنها".
"أما الجناب الأقدس؛ فقد شرب صلى الله عليه وسلم منه بلا أكواب، ووقف منه على كل قصر وغرفة وسور وباب، وزُج به في بحار المعارف الإلهية راكبا سُفُن التحقيق والرسوخ، محصلا من ذلك مالايَعلم حقيقته إلا الله".
"وأما الأسماء؛ فقد دخل منها جميعَ الحضرات، وتصفَّح جميع الأثَرات، وعلم كل اسم ومقتضاه، ومفاده ومؤداه".
"وأما الصفات؛ فقد علمها ثم تعلق بها، ثم تخلق بما يصلح للتخلق منها، ثم تحقق بها".
"وأما الأفعال؛ فقد علم هناك كيف انبجست من حضرة الربوبية، وأن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى، وأن لافاعل سواه، وأنه خلق العباد وخلق أفعالهم، وأنه الذي يُبرزهم ويبرز متى شاء أرزاقهم وآجالهم، وعلم إذذاك من الشؤون الإلهية مالا يصل إلى حماه نبي ولا رسول ولاملك".
"وأما ما يتعلق به صلى الله عليه وسلم؛ فقد علم هناك ما توج به وتقلد إذذاك من حلل الإصطفاء والتخصيص الإلهي ما أفرغ عليه وقرَّت عينه إذذاك بما حُبي به، وعلم كمية ذلك البحر الطام، وكيفية الركوب فيه للخاص والعام".
"وأما ما يرجع للأنبياء والمرسلين؛ فقد علم طبقاتهم ودرجاتهم وعددهم، وتفاوتهم في الفضل، وأعدادهم وأسماءهم وأوقاتهم، والمتبع منهم ومن لا، وعدد التابعين...إلى غير ذلك".
"وأما ما يرجع إلى أممهم؛ فقد علم هناك أمة كل رسول وعددها ومدتها، والمتبع من المعترض، وما يقع للرسل معهم، وعلم أنباءهم وأخبارهم وقصصهم".
"وأما ما يرجع إلى الكتب السماوية؛ فقد علم هناك عددها وأسماءها وأصحابها، والأسرار [الإلهية] التي انطوت عليها، وما يتبع ذلك".
"وأما ما يتعلق بالملائكة؛ فقد عَلم هناك أصنافهم وأعدادهم ومقاماتهم، وعبادتهم، وتفاوتهم في المراتب، وعلم خدمته منهم [من غيرهم، وعلم خدمة الرسل منهم...إلى غير ذلك]"
"وأما ما يرجع إلى الشرائع؛ فقد علم هناك الشرائع على تفصيلها، وعلم أسرار كل شريعة وأحكامها وأهلها العاملين بها، ونتيجة كل شريعة".
"وأما ما يرجع إلى الكتاب العزيز؛ فقد تلقاه هناك من لدن حكيم عليم، وعلم أمره ونهيه، وخبره ووعده ووعيده، وناسخه ومنسوخه...إلى غير ذلك".
"وذلك من غير واسطة جبريل ولاغيره؛ لأنك قد علمت أن هذا كله أُخبر به صلى الله عليه وسلم في عالم البطون، وهو معنى كونه: نبيا وآدم بين الروح والجسد".
"وأما أن يكون النبي مشتقا من النبوة - وهي الرفعة - وهي لاتحصل إلا بحيازته صلى الله عليه وسلم المعاني السابقة...فهذا المعنى الثاني لازم، والأول ملزوم، ومن علم هذا وأحاط به خُبرا؛ تبين له ما في شيوخية جبريل له عند القائل بها، وكيف يكون شيخَه وهو خادمه؟، وقد وقف عند ليلة الإسراء وقال: {ومامنا إلا له مقام معلوم}. [الصافات/ 164]، أفي تلك المهامه الفيَح يترك الشيخ تلميذه؟. لالا؛ بل فيما دونها يكون الشيخ أعون وأقوم بأمور التلميذ".
"وبه تعلم - أيضا - ما في قول سيدنا عبد الله بن عباس، كما في صحيح البخاري عند قوله تعالى: {لاتحرك به لسانك لتعجل به. إن علينا جمعه وقرآنه}. [القيامة/ 16، 17]، من أن معناه أنه: كان يتلقف الوحي من جبريل، ويبادر إلى تكريره خوف أن يفلت منه، فلذلك قيل له: {إن علينا جمعه وقرآنه}. والكمال لمولانا؛ إذ يمكن أنه لم يبلغه الحديث المذكور، وهو: كنت نبيا...كما لم يبلغ مولاتنا فاطمة الزهراء، وهي حاضنة الوحي وحاضرته، حديث: إنا معاشر [الأنبياء] لانورث، ما تركناه صدقة حتى راحت تطلب من سيدنا أبي بكر الصديق حظها من الميراث".
قال رضي الله عنه: "وحيث أُفرغت عليه صلى الله عليه وسلم حُلل الكمالات إذذاك، ولازمان ولامكان، ولا مخلوق هناك، وكان الأمر فيما أخبر به كما ذكرنا وقوفه، إذ في القول لضيق الوقت اختصرنا، فلم يرد في الكتاب ولا في السنة المطهرة أنه انسلخ من ذلك، بل الأصل هو: الاستصحاب، وهو أقوى الأدلة عند الأصوليين".
"وعليه؛ فكيف يصح القول بأنه إنمانُبئ على رأس الأربعين سنة، يقال عليه: وكيف كان قبل؟. سيما وقد ضَرَبت طبول الكائنات به قبل وجوده، وأوصت الأنبياء أممها بنصره واتباعه إن أدركوه...". انتهى.