قال الإمـــــام الحـــــداد
وعلى المُريد أن يَجتهِد في كَفِّ جَوارِحِهِ عنِ المَعاصي والآثامِ، ولا يُحرِّكَ شيئاً مِنها إلاّ في طاعةٍ، ولا يَعملُ بِها إلا شَيئاً يعودُ عليهِ نَفعُهُ في الآخِرةِ.
وَلْيُبالِغ في حِفظِ اللّسانِ فإنّ جِرمَهُ صَغيرٌ وَجُرمُهُ كبيرٌ، فَلْيكُفَّهُ عنِ الكذبِ والغيبةِ وسائرِ الكلامِ المحظورِ، وَلْيحتَرِز مِن الكلامِ الفاحِشِ، ومِنَ الخَوضِ فيما لا يعنيهِ، وإن لم يَكُن مُحَرَّماً فإنـّه يُقـسِّي القلبَ، ويكونُ فيهِ ضياعُ الوقتِ، بل يَنبغي لِلمُريدِ أن لا يُحرّكَ لِسانهُ إلاّ بِتلاوةٍ أو ذِكرٍ أو نُصحٍ لِمُسلمٍ أو أمرٍ بِمعروفٍ أو نهيٍ عن مُنكرٍ أو شيءٍ مِن حَاجاتِ دُنياهُ التي يَستعينُ بها على أُخراهُ، وقَد قالَ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ: "كُلّ كلامِ ابنِ آدَمَ عليهِ لا لهُ إلاّ ذِكرُ الله أوْ أمرٌ بمعروفٍ أو نهيٌ عن مُنكرٍ"
واعلم أنّ السّمع والبصَرَ بابانِ مَفتوحانِ إلى القلبِ يَصيرُ إليهِ كُلُّ ما يدخُلُ مِنهُما، وكم مِن شيءٍ يسمَعُهُ الإنسانُ أو يَراهُ مِمّا لا يَنبغي يَصِلُ مِنهُ أثرٌ إلى القلبِ تَعْسُرُ إزالتُهُ عنهُ فإنّ القلبَ سَريعُ التأثُّرِ بِكُلِّ ما يَرِدُ عليهِ، وإذا تأثّرَ بشيءٍ يَعسُرُ مَحوُهُ عنهُ، فَلْيكُنِ المُريدُ حريصاً على حِفظِ سمعِهِ وبصَرِهِ مُجتهداً في كفِّ جَميعِ جَوارِحِهِ عن الآثامِ والفَضولِ، وليحذَرْ من النَّظرِ بِعَينِ الاِستحسانِ إلى زَهرةِ الدُّنيا وزينَتها فإنّ ظاهِرَها فِتنةٌ، وباطِنَها عِبرَةٌ.
والعَينُ تَنظُرُ إلى ظاهِرِ فِتنَتِها والقلبُ يَنظُرُ إلى باطِنِ عِبرَتِها، وكم مِن مُريدٍ نَظرَ إلى شيءٍ مِن زَخارِفِ الدُّنيا فمَالَ بِقلبِهِ إلى مَحبَّتِها والسّعيِ في جَمعِها وعَمارَتِها، فيَنبغي لكَ أيُّها المُريدُ أن تَـغُـضَّ بَصرَكِ عَن جَميعِ الكائِناتِ ولا تنظُرَ إلى شيءٍ مِنها إلا على قصدِ الاِعتبارِ، ومعناهُ أن تذكُرَ عِندَ النّظَرِ إليها أنـَّها تَفنى وتَذهبُ وأنها قد كانَت مِن قَبلُ مَعدومةً، وأنـَّهُ كَم نَظَر إليها أحدٌ مِنَ الآدميِّينَ فذهَبَ وبَقِيَت هِيَ، وكَم تَوارَثها خَلفٌ عن سَلفٍ.
وإذا نظَرْتَ إلى الموجوداتِ فانظُر إليها نَظَر المُستدِلِّ بِها على كَمالِ قُدرةِ مُوجِدِها وبارِئِها سُبحانَهُ، فإنّ جميعَ الموجوداتِ تُنادِي بِلسانِ حالِها نِداءً يَسمعُهُ أهلُ القُلوبِ المُنَوَّرةِ، النّاظِرونَ بِنورِ اللهِ- أن لاَ إِله إلاّ اللهُ العزيزُ الحكيمُ.