بقلم: د. زغلول النجار
قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (سورة النور الآية 45).
هـذه الآية الكريمة جاءت في بدايات الثلث الأخير من سورة النور، وهي سورة مدنية، وآياتها أربع وستون بعد البسملة، وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي أن الله (تعالى) هو نور السماوات والأرض، وأنه (سبحانه وتعالى) هو الذي يهدي لنوره من يشاء من عباده، وأن كل مخلوق في هذا الوجود لا يهتدي بنور الله فإنه لن يهتدي أبدا.
ويدور المحور الرئيسي لسورة النور حول عدد من التشريعات الإلهية الضابطة لسلوك المسلم في كل من حياته الخاصة والعامة، والحاكمة لعلاقاته في داخل أسرته ومع غيره من الخلق صونا لحرمات الناس وكراماتهم، والله يقول الحق، وهو يهدي إلي سواء السبيل.
وتبدأ سورة النور بالتأكيد علي أنها من جوامع سور القرآن الكريم لأن الله (تعالى) فرض فيها علي عباده فرائض ألزمهم بها، وفي مقدمة ذلك تحريم الزنا، وتشريع الحدود الرادعة للواقعين فيه، ووصفه بأنه من أكبر الجرائم في حقوق الناس، ولذلك بشعها إلي كل صاحب ضمير حي وذلك بقول الحق (تبارك وتعالى): {الزَّانِي لا يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (النور:3).
وكما حرمت سورة النور الزنا بكل مقدماته فإن هذه السورة الكريمة تنهي عن الخوض في أعراض الناس، مؤكدة أن الخائضين في هذا الأمر بغير دليل قاطع هم من الفاسقين الذين يستحقون العقوبات الرادعة، وتعتبرهم من الخارجين علي دين الله.
قال الله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور:5).
وتشرع سورة النور للملاعنة كوسيلة من وسائل درء الشبهات بين الأزواج، وتشير إلي فرية حديث الإفك، وتبرئ المظلومين من دنسه، وتغلظ العقوبة للذين افتروه، وتحذر من العودة إلي افتراء مثله أبدا، كما تحذر من إتباع خطوات الشيطان لأنه يأمر بالفحشاء والمنكر، وتحض علي الإنفاق لذي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، وتكرر النهي عن رمي المحصنات الغافلات المؤمنات، وتغلظ العقوبة علي ذلك.
وتنهي سورة النور عن دخول البيوت دون استئذان وسلام علي أهلها، وتضع الضوابط الشرعية لذلك، كما تأمر بغض البصر، وحفظ الفرج، وستر العورات، وبالاحتشام في الملبس والمظهر، كما تنهي عن التبرج بزينة، وتضع ضوابط حجاب المرأة المسلمة، وضوابط الزواج الإسلامي، وتحرم البغاء بكل صوره، وأشكاله وتعتبره من أبشع الجرائم المهدرة لكرامة الإنسان.
وتؤكد السورة الكريمة أن الله تعالى هو نور السماوات والأرض، وأنه يهدي لنوره من يشاء، وتدعو إلي عتق رقاب الأرقاء، وإلي بناء المساجد والقيام علي عمارتها وتطهيرها طمعا في مرضاة الله (سبحانه وتعالى)، وتجنبا لأهوال يوم القيامة.
وتبشر سورة النور أهل المساجد بأن الله تعالى سوف يجزيهم أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله، وفي المقابل تحذر الكفار بأن أعمالهم الجيدة سوف يجزون عليها في الدنيا، ولا رصيد لهم عند الله (سبحانه وتعالى) في الآخرة، وتشبه أعمالهم السيئة بأحلك الظلمات المتراكبة فوق قيعان البحار العميقة، مؤكدة أن: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (النور40).
وتؤكد السورة الكريمة أن جميع من في السماوات والأرض يسبح لله الذي له ملك كل شيء وإليه المصير، وتحذر من النفاق والمنافقين، وتفصح عن شيء من دخائل نفوسهم، وتقارن بين مواقفهم الكافرة، ومواقف المؤمنين الصادقين، وتأمر بطاعة الله ورسوله، جازمة أن ما علي الرسول إلا البلاغ المبين، مؤكدة أن وعد الله تعالى للذين آمنوا وعملوا الصالحات قائم إلي قيام الساعة.
وتعاود سورة النور الأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة رسول الله صلي الله عليه وسلم، كما تعاود الأمر بمزيد من ضوابط السلوك في البيت المسلم خاصة في حضرة رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم ومن بعده في حضرة كل مسئول عن العمل الإسلامي، وتحذر من مخالفة ذلك درءا للفتن في الدنيا وللعذاب في الآخرة.
وتختتم السورة الكريمة بالتأكيد مرة أخري أن لله ما في السماوات والأرض، وأنه تعالى عليم بخلقه الذين سوف يرجعون جميعا إليه فينبئهم بما فعلوا ويجازيهم عليه.
هذا وقد استعرضت سورة النور العديد من الآيات الكونية للتدليل علي صدق كل قضية غيبية جاءت فيها.
من أقوال المفسرين في تفسير قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (سورة النور الآية 45).
* ذكر ابن كثير (رحمه الله) ما مختصره: يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه أنواع المخلوقات، علي اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها من ماء واحد، {فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} كالحية وما شاكلها، ومنهم من يمشي علي رجلين كالإنسان والطير، ومنهم من يمشي علي أربع كالأنعام وسائر الحيوانات، ولهذا قال: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء} أي بقدرته، لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
* وجاء في الظلال (رحم الله كاتبها برحمته الواسعة) ما مختصره: وهذه الحقيقة الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة، حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء، قد تعني وحدة العنصر الأساسي في تركيب الأحياء جميعا، وهو الماء، .. فهي ذات أصل واحد. ثم هي ـ كما تري العين ـ متنوعة الأشكال. منها الزواحف تمشي علي بطنها، ومنها الإنسان والطير يمشي علي قدمين. ومنها الحيوان يدب علي أربع.
كل أولئك وفق سنة الله ومشيئته، لا عن فلتة ولا مصادفة: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء} غير مقيد بشكل ولا هيئة. فالنواميس والسنن التي تعمل في الكون قد اقتضتها مشيئته الطليقة وارتضتها {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
* وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم (جزاهم الله خيرا) ما نصه: الله خالق كل شيء، وأبدع الأشياء بإرادته، وخلق كل حي يدب من أصل مشترك هو الماء، لذلك لا يخلو الحي منه، ثم خالف بينها في الأنواع والاستعدادات ووجوه الاختلاف الأخرى، فمن الدواب نوع يزحف علي بطنه كالأسماك والزواحف، ومنها نوع يمشي علي رجليه كالإنسان والطير، ومنها نوع يمشي علي أربع كالبهائم، يخلق الله ما يشاء من خلقه علي أية كيفية تكون للدلالة علي قدرته وعلمه، فهو المريد المختار، وهو القادر علي كل شيء.
وجاء في تعليق الخبراء بالهامش ما نصه: (الماء في الآية الكريمة هو ماء التناسل....)، والآية الكريمة لم تسبق ركب العلم فقط في بيان نشوء الإنسان من النطفة.. بل سبقته كذلك في بيان أن كل دابة تدب علي الأرض خلقت كذلك بطريق التناسل...، ومما تحتمله الآية من معان علمية أن الماء قوام تكوين كل كائن حي، فمثلا يحتوي جسم الإنسان علي نحو70% من وزنه ماء... ولم يكن تكوين الجسم واحتواؤه هذه الكمية الكبيرة من الماء معروفا مطلقا قبل نزول القرآن.
والماء أكثر ضرورة للإنسان من الغذاء..، فبينما الإنسان يمكنه أن يعيش (60 يوما) بدون غذاء، فإنه لا يمكنه أن يعيش بدون الماء إلا لفترة قصيرة تتراوح بين 3 و10 أيام علي أقصي تقدير.
والماء أساس تكوين الدم والسائل اللمفاوي والسائل النخاعي، وإفرازات الجسم كالبول والعرق والدموع واللعاب والصفراء واللبن والمخاط والسوائل الموجودة في المفاصل، وهو سبب رخاوة الجسم وليونته، ولو فقد الجسم 20% من مائه فإن الإنسان يكون معرضا للموت.
والماء يذيب المواد الغذائية بعد هضمها فيمكن امتصاصها، وهو كذلك يذيب الفضلات من عضوية ومعدنية في البول والعرق. وهكذا يكون الماء الجزء الأكبر والأهم من الجسم، وذلك يمكن القول بأن كل كائن حي مخلوق من الماء.
* وجاء في بقية التفاسير كلام مشابه لما ذكره السابقون من المفسرين ولا حاجة إلي تكراره هنا.
من الدلالات العلمية للآية الكريمة
أولا: في قوله تعالى: والله خلق كل دابة من ماء: (الدابة) في اللغة هي كل ما يدب علي الأرض أي يمشي عليها بخفة، وجمعها (دواب)، وإن كان من اللغويين من يعتبر لفظة (دابة) جمعا لكل شيء يدب علي الأرض قياسا علي خائنة جمع خائن. ولذلك يقال: (دب)، (يدب) (دبا) و(دبيبا) لكل من مشي بخفة علي الأرض.
وقد قيل إن الفعل يستعمل للتعبير عن حركة الحيوان أكثر من استعماله للإنسان، وللحيوان الذي يحيا علي اليابسة بالذات دون الحيوان الذي يحيا في الماء، ولكن الأولي إطلاقه علي عموم من مشي علي الأرض وذلك لقول الحق (تبارك وتعالى): {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (النحل:61).
يتبع