عن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه- قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن
كان نبيًا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. قالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلاً أمينًا، ولا تبعث معنا إلا أمينًا، فقال صلى الله عليه وسلم : «لأبَعَثَنَّ
مَعَكُمْ رَجُلاً أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ». فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: «قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاح». فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«هَذَا أمينُ هَذِهِ الأُمَّةِ».
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه بثلاثة مواضع أولها في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب «مناقب أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه» برقم (3745)،
وثانيها في كتاب المغازي باب (قصة أهل نجران) برقمي (4380- 4381)، والثالث في كتاب أخبار الآحاد باب «إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام» برقم (7254)، كما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب «فضائل أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه» برقم (2420)، وأخرجه أيضًا الترمـذي في المناقب برقم (3757)، وأخرجه ابن ماجه في السنة برقم (135)، وعزاه المزي في الأطراف للنسائي في الكبرى، وأخرجه الإمام أحمد في المسند (5 / 401).
أولاً: ترجمة أبي عبيدة رضي الله عنه
هو: عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة، أبو عبيدة، اشتهر بكنيته ونسبه إلى جده،فيقال: أبو عبيدة بن الجراح .
قال ابن كثير رحمه الله: أبو عبيدة بن الجراح الفهري، أمين هذه الأمة، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الخمسة الذين أسلموا في يوم واحد، وهم: عثمان بن مظعون، وعبيدة بن الحارث، وعبد الرحمن ابن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وأبو عبيدة بن الجراح،أسلموا على يد الصديق رضي الله عنهم أجمعين، ولما هاجر آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن معاذ. وقيل: بينه وبين محمد بن مسلمة، وقال ابن الأثير: وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وشهد بدرًا وأُحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو من السابقين إلى الإسلام، وهاجر إلى الحبشة وإلى المدينة أيضًا، وكان يدعى القوي الأمين، وقال الذهبي في السِّير: قال ابن سعد في الطبقات : عن مالك بن يَخَامِر أنه وصف أبا عبيدة فقال: كان رجلاً نحيفًا معروق الوجه (قليل اللحم) خفيف اللحية طُوَالاً، أحنى أثرم الثنيتين (مكسورهما)، وقال أيضًا: وقد شهد أبو عبيدة بدرًا فقتل يومئذٍ أباه، وأبلى يوم أُحد بلاءً حسنًا، ونزع يومئذ الحلقتين اللتين دخلتا من المغفر في وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضربة أصابته فانقلعت ثنيتاه، فحسن ثغره بذهابهما، حتى قيل: ما رؤي هَتْمٌ قَطُّ أحسن من هَتْمِ أبي عبيدة، قال ابن كثير: وذلك أنه خاف أن يؤلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحامل على ثنيتيه فسقطتا، فما رؤي أحسن هتمًا منه.
ولقد قال أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- يوم السقيفة: قد رضيت لكم أَحَدَ هذين الرجلين: عمر، وأبا عبيدة، أي ليبايعوه خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم , وقال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح لاستخلفته وما شاورت، فإن سُئلتُ عنه قلتُ: استخلفتُ أمينَ اللهِ وأمينَ رسولِه. قال محقق السير: أخرجه ابن سعد والحاكم.
وقد روي عن ابن مسعود- رضي الله عنه- أنه قال: أخلائي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة: أبو بكر وعمر وأبو عبيدة.
ولقد كان أبو عبيدة- رضي الله عنه- من قادة الجيوش في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم في عهد أبي بكر وعمر- رضي الله عنهما-، فقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة، منها المرة التي جاع فيها عسكره، وكانوا ثلاثمائة، فألقى لهم البحر الحوت الذي يقال له العنبر، فقال أبو عبيدة: ميتة! ثم قال: لا، نحن رسل رسول الله، وفي سبيل الله فكلوا، وذكر الحديث وهو في الصحيحين والموطأ والمسند والترمذي والنسائي وابن ماجه.
ولما تفرغ الصديق- رضي الله عنه- من حرب الردة، وحرب مسليمة الكذاب جهز أمراء الأجناد لفتح الشام، فبعث أبا عبيدة ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشُرَحْبِيلَ بن حسنة، فتمت وقعة أجنادين بقرب الرملة، ونصر الله المؤمنين فجاءت البشرى والصديق في مرض الموت، ثم لما توفي أبو بكر وتولى عمر الخلافة عزل خالد بن الوليد وولى قيادة الجيوش التي بالشام أبا عبيدة- رضي الله عنه-، ثم لما كان طاعون عمواس توفي فيه أبو عبيدة- رضي الله عنه-، وكانت وفاته سنة ثماني عشرة، وله ثمان وخمسون سنة، قاله أبو حفص الفلاس، وقال: وكان يخضب بالحناء والكتم، وكان له عقيصتان كما نقله الإمام الذهبي في السير، وقال: وقال كذلك في وفاته جماعة، وانفرد ابن عائذ عن أبي مسهر أنه قرأ في كتاب يزيد بن أبي عبيدة أن أبا عبيدة توفي سنة سبع عشرة.
ثانيًا: شرح الحديث:
قوله: «جاء السيد والعاقب صاحبا نجران» قال الحافظ: أما السيد فكان اسمه الأَيْهَمَ، ويقال: شُرَحْبيل، وكان صاحبَ رحالهم ومجتمعهم ورئيسَهم في ذلك،وأما العاقب فاسمه عبد المسيح، وكان صاحبَ مشورتهم، وكان معهم أيضًا أبو الحارث علقمة، وكان أسقفهم وحبرهم وصاحب مدارسهم، ونجران: بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن، وذكر أن ابن سعد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليهم فخرج إليه وفدهم في أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، وعند ابن إسحاق أيضًا من حديث كرز بن علقمة أنهم كانوا أربعة وعشرين رجلاً وسرد أسماءهم.
ونقل الحافظ في الفتح قول ابن سعد: دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وتلا عليهم القرآن فامتنعوا، فقال صلى الله عليه وسلم : إن أنكرتم ما أقول فهَلُمَّ أباهلكم، فانصرفوا على ذلك.
قوله: «يريدان أن يلاعناه» أي يباهلاه، وذكر ابن إسحاق بإسناد مرسل أن ثمانين آية من أول سورة آل عمران نزلت في ذلك، يشير إلى قوله تعالى: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْالآية.
قوله: «فقال أحدهما لصاحبه» ذكر أبو نعيم في الصحابة بإسناد له أن القائل ذلك هو السيد، وقال غيره: بل الذي قال ذلك هو العاقب لأنه كان صاحب رأيهم، وفي زيادات يونس بن بكير في المغازي بإسناد له أن الذي قال ذلك شرحبيل أبو مريم.
قوله: «فوالله لئن كان نبيا فلاعنَّا»: في رواية الكشميهني: فلاعننا بإظهار النون.وقوله: «لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا». زاد في رواية ابن مسعود: «أبدًا»، وفي مرسل الشعبي عند ابن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران لوتموا على الملاعنة، ولما غَدَا عليهم أخذ بيد حسن وحسين، وفاطمة تمشي خلفه للملاعنة».قوله: «قالا: إنا نعطيك ما سألتنا»، ذكر ابن سعد أن السيد والعاقب رجعا بعد ذلك فأسلما، زاد في رواية ابن مسعود: «فأتياه فقالا: لا نلاعنك، ولكن نعطيك ما سألت».
قوله: «رجلاً أمينًا حق أمين». قال الإمام النووي: أما الأمين فهو الثقة المرضي، قال العلماء: والأمانة صفة مشتركة بينه وبين غيره من الصحابة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم خص بعضهم بصفات غلبت عليهم وكانوا بها أخص، وقد أورد الترمذي وابن حبان حديث أنس: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرأهم لكتاب الله أُبيٌّ، وأفرضهم زيد، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ، ألا وإن لكل أمة أمينًا، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة». وقال الحافظ ابن حجر: والأمين هو الثقة الرضي، وهذه الصفة وإن كانت مشتركة بينه وبين غيره لكن السياق يشعر بأن له مزيدًا في ذلك، لكن خص النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد من الكبار بفضيلة ووصفه بها، فأشعر بقدر زائد فيها على غيره، كالحياء لعثمان،والقضاء لعلي، ونحو ذلك.قوله: «فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم » في رواية الإسماعيلي: «فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم »، وعند المصنف في مناقب أبي عبيدة: «فأشرف له أصحابه»، وعند مسلم: «فاستشرف لها الناس». قال الحافظ: أي تطلعوا للولاية ورغبوا فيها حرصًا على تحصيل الصفة المذكورة، وهي الأمانة، لا على الولاية من حيث هي، وقال النووي: حرصًا على أن يكون هو الأمين الموعود، والله سبحانه وتعالى أعلم.قوله: «قم يا أبا عبيدة بن الجراح»، وعند المصنف في مناقب أبي عبيدة: «فبعث أبا عبيدة»، وفي رواية أبي يعلى: «قم يا أبا عبيدة، فأرسله معهم»، قال الحافظ في الفتح: ووقع في رواية لأبي يعلى من طريق سالم عن أبيه سمعت عمر يقول: ما أحببت
الإمارة قط إلا مرة واحدة، فذكر القصة، وقال في الحديث فتعرضت أن تصيبني، فقال: قم يا أبا عبيدة».
من فوائد الحديث (قصة أهل نجران):
قال الحافظ في الفتح: وفي قصة أهل نجران من الفوائد:
1- أن إقرار الكافر بالنبوة لا يدخله في الإسلام حتى يلتزم أحكام الإسلام.
2- جواز مجادلة أهل الكتاب، وقد تجب إذا تعينت مصلحته.
3- مشروعية مباهلة المخالف إذا أصَرَّ بعد ظهور الحجة، وقد دعا ابن عباس إلى
ذلك ثم الأوزاعي، ووقع ذلك لجماعة من العلماء.
4- مصالحة أهل الذمة على ما يراه الإمام من أصناف المال.
5- بعث الإمام الرجل العالم الأمين إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام.
6- في القصة منقبة ظاهرة لأبي عبيدة رضي الله عنه.
يتبع