فهذه الخمس هي تعلّقات النفس، فمن قطع هذه التعلّقات صعد دائرة الإثبات، وهي سبع مراتب على عدد حروفها، فتكون حياته بالتوحيد، وعلمه بالشهود، وتصرّفه بالرضا، ونطقه بالحكمة، ونظره بالبصيرة، وشهوده بالحقيقة، وسمعه بالكشف؛ فبحياته بالحقيقة يدرك حقيقة البقاء، وبعلمه بالشهود يشهد أنوار اللقاء، وبتصرفه بالرضا يغنيه عن التطلع لما مضى، وبنطقه بالحكمة يكتسب الحماية عن الزلل، وبنظره بالبصيرة يكشف له عن حقائق المآل، وبسمعه بالكشف يوجب له الرؤية في عالم الحقيقة.
افتح بصر بصيرتك، فإنه ليس في الوجود شيء إلا وهو يقول: «لا إله إلا الله»؛ ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ﴾ [الإسراء:44]، ﴿ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الحشر:24] يدل بوجوده على موجده، وبخلقه على خالقه.
فَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَة تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِد
ولتعلم أنه إذا سُلِّط سلطانُ «لا إله إلا الله» على مدينة إنسانيتك، لم يبق في دائرة دارك ديّار، ولم يسكنها أحد من الأغيار، ولم يبق معه قرار؛ ﴿ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ﴾ [المدثر: 28]، ﴿ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ﴾ [النمل:34]، فيصير عزُّ كبريائك مذلَّةً وتواضعًا، وعزُّ كثرتك قلةً، وعزُّ وجودك محوًا، وعزُّ بقائك فناءًا، وتُبَدَّل كل صفة مذمومة بصفة محمودة، وتُنقَل من عزِّ هو ذُلٌّ إلى ذُلٍّ هو عِزٌّ، ويقطع منها شجر صفاتك المذمومة، ويزول عنها عوسج الكفر والتعطيل، ويذهب منها شرك التشبيه والتمثيل، ويغرس فيها ريحان الإيمان والتوحيد، وينبت بنفسج تشريف التنزيه والتفريد، وتتنوع صفاتك المذمومة محمودة، ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ﴾ [الأعراف:58].
ولتعلم أنّ كاشف القلوب «لا إله إلا الله»، وكاشف الأرواح «الله الله»، وكاشف الأسرار «هو، هو».
قلت: يعني يكشف للقلوب عما انطوى فيها من العلوم اللَّدُنِّية والحقائق المعنوية، وللأرواح عما جانسها من العوالم الملكوتية والجواهر الخفية، وللأسرار عما شاكلها من الواردات الإلهية والتجليات القدسية؛ فـ«لا إله إلا الله» قوت القلوب، و«الله» قوت الأرواح، و«هو» قوت الأسرار.
فـ«لا إله إلا الله» مغناطيس القلوب، و«الله» مغناطيس الأرواح، و«هو» مغناطيس الأسرار. والقلبُ والروحُ والسرُّ بمنزلة دُرَّة في صدفةٍ في حُقَّةٍ ، أو بمنزل طائر في قفص في بيت، فالحُقَّةُ والبيت بمنزلة القلب، والقفص بمنزلة الروح، والدرة والطير بمنزلة السرِّ، فمهما لا تصل إلى البيت لا تصل إلى القفص، ومهما لا تصل إلى القفص لا تصل إلى الطائر، فكذلك مهما لم تصل إلى القلب لم تصل إلى الروح، ومهما لم تصل إلى الروح لم تصل إلى السر، فإذا وصلت إلى البيت وصلت إلى عالَم القلوب، وإذا وصلت إلى القفص فقد وصلت إلى عالَم الأرواح، وإذا وصلت إلى الطائر فقد وصلت إلى عالَم السرّ، فافتح قلبك بمفتاح «لا إله إلا الله»، وباب روحك بمفتاح «الله »، واستنزل طائر سرِّك بقِرْطِمِ قولك: «هو»؛ فإن قولك «هو» قوت لهذا الطائر، وإليه الإشارة بقوله تعالى: يا موسى اجعلني طعامك وشرابك.
ولتعلم أن تشبيه القلب بالبيت والروح بالقفص والطير بمنزلة الحُقَّةِ تشبيهٌ مجازي من جهة الحسِّ تقريبًا لفهمك، وإشارة إلى أنه لا وصول إلى عالم الأرواح إلا بعد العبور على عالم القلوب، ولا وصول إلى عالم الأسرار إلا بعد العبور على عالم الأرواح، وإلا فالحقيقة بالعكس من ذلك؛ فإن عالم الأسرار أكبر من عالم الأرواح، وعالم الأرواح أكبر من عالم القلوب.
وإنما مثاله الحقيقي بثلاث دوائر، بعضهما محيط ببعض؛ فالدائرة الكبرى عالَم الأسرار، والوسطى عالَم الأرواح، والصغرى عالَم القلوب؛ وإنما كان عالَم القلوب أصغر من عالَم الأرواح لأن عالَم القلوب أقرب لعالَم الشهادة من عالَم الأرواح، وإنما كان عالَم الأرواح أصغر من عالَم الأسرار لأنّ عالَم الأرواح أقرب إلى عالَم الأشباح، وكل ما كان إلى الأصغر أقرب كان أبعد من الأكبر، وكل ما كان منه أبعد كان أقرب إلى الأكبر؛ لأنّ عالَم الأشباح عالَم الضيق والحرج والزحمة، وعالَم الأسرار والأرواح عالَم الفسحة، وعالَم الروح أصغر لما هو أقرب إلى عالَم الغيب والملكوت.
فافهم ـ أيدك الله ـ أنّ القلب قشر، والروح لبّ، والسر لبّ اللبّ؛ فعالم القلب معراج المريدين، وعالم الروح معراج الصديقين، وعالم السر معراج المرادين.
وإن شئت تقول: عالَم القلب معراج أهل البداية، وعالَم الروح معراج أهل التوسط، وعالَم السر معراج أهل الوصول والنهاية.
ووجه آخر: عالَم القلب معراج التوَّابين، وعالَم الروح معراج المحبين، وعالَم السر معراج العارفين.
فمهم لم ترق من حضيض طبعك وبشريتك ونفسك لا تصبو إلى عالَمهم، فإذا ترقيت من درك طبعك وبشريّتك ونفسك فحينئذ يستقبلك تصرفُ الحقّ فيك؛ «قَلْبُ المُؤْمِنِ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهُ كَيْفَ يَشَاءُ »، فتارة يقلِّبه من قَبضٍ إلى بَسْطٍ، ومن خَوفٍ إلى رَجاءٍ، ومن بقاءٍ إلى فناءٍ، ومن صَحْوٍ إلى مَحْوٍ، ومن طَربٍ إلى حُزنٍ، وتارة بعكس ذلك وهو أن يجذبه عنه، ويوصله إلى أعلى مراتب السائرين، وتارة يدرؤه عنه فيوقفه في أدنى منازل المنقطعين، جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين.
ولتعلم أنك إذا وصلت إلى عالم الفناء، اتصل بك تصرُّفُ الحقّ فيك، فصار حجرك إكسيرًا عزيزًا، ونحاسك ذهبًا إبريزًا، وأفرغ عليك من أنوار التنزيه والتوحيد ما ينتفي معه كل تشريك وتشبيه وتعطيل وتمويه، فتصفو بصفاء التوحيد من كدورات صفاتك، وتتقدس به عن دنس مخالفتك.
فحينئذ يُدخِلك في زمرة السالكين، ويُصيِّرك في منازل السائرين، إلى أن يبلغ بك إلى أعلى منازل القرب من الرضا والتسليم والتفويض والطمأنينة والتسكين، مع ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد:28].
ولتعلم أنك إذا وصلت إلى عالم الروح، برز لك نَعْتُ القِدَمِ بتنصيص التخصيص ومنشور التشريف من ياء إضافته ﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ﴾ [الحجر:29]، وهذه إضافة تفضيل القَدِيمِ للمُحْدَث، وتبجيل القَديم للمُحدَث، كاد هذا التخصيص والتفضيل أن يمحو عن المُحدَث نعمة الحدوث، وكاد هذا التشريف أن يَصِل القديم بالمحدَث، فكاد في هذه الإضافة أن يتشبّث القديم بالمحدَث؛ تنزّه القِدَمُ عن الحدَث، وتنزه القديم عن المُحدَث، وجلَّت الأزليّة عن الوَصْل والفَصْل من الإضافة الجزئية؛
أضافك إليه إضافة مزية لا إضافة جزئية، أضافك إليه إضافة خصوصية لا إضافة جنسية، أضافك إليه إضافة تربية لا إضافة شبهية، أضافك إليه إضافة كرم لا إضافة قِدَم، وهو مُنَزَّه عن كل إضافة، وإن قال ﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ﴾ [الحجر:29]؛ لأنه تعالى ليس له كلٌّ فيقال بَعضٌ، وليس له جِنسٌ فيقال نَوعٌ، تَنزَّه عن حقيقة «من» و«إلى» و«في» و«على»؛ ليس له جنسية ولا بعضية فيقال «من»، وليس له نهاية فيقال «إلى»، ولا له محلِّية فيقال «في»، وليس له قرار فيقال «على»، تقدَّس عن البداية والنهاية والظرفية والمحلية.
يتبع