لما ظهرت البدع وكثر من ابتدع، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادعوا أنّ فيهم زهادا وعبادا، انفرد خواص السنة الحافظون قلوبهم عن طوارق الفتنة فهم ودائع مدد الله وخزائن أسراره اليه يرجعون وبه يهيمون وعليه يتوكلون وإلى غيره لا يلتفتون، وهم رضي الله عنهم على مشارب وأطوار، منهم المتحلي بالتجرّد عن الآثار، ومنهم المطيلس بطليسان الذل لله والانكسار، ومنهم الذين سلكوا طريق الفقر والافتقار، واشتهروا باسم الصوفية والفقراء.
ونحن نذكر في هذا الفصل أسماء جماعة من شيوخ هذه الطريقة العلية من الطبقة الأولى:
رويم بن أحمد (توفي سنة 303) هو أبو أحمد رويم بن أحمد بغدادي من أعظم المشايخ، كان مقرئا وفقيها على مذهب داود.
ومن كلامه رحمه الله: "من حكم الحكيم أنّه يوسع على إخوانه في الأحكام ويضيق على نفسه فيها، فان التوسعة من اتباع العلم، والتضييق على نفسه من حكم الورع".
ابراهيم بن أدهم (توفي سنة 161) هو أبو إسحاق ابراهيم بن أدهم بن منصور، من بلخ كان من أبناء الملوك فخرج يوما يتصيّد فأثار ثعلبا أو أرنبا وهو في طلبه فهتف به هاتف: يا ابراهيم ألهذا خلقت أم بهذا أمرت؟
ثمّ هتف به: ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت فنزل عن دابته وصادف راعيا لأبيه فأخذ جبة للراعي من صوف ولبسها وأعطاه فرسه وما معه، ثمّ إنّه دخل البادية ثم دخل مكة وصحب سفيان الثوري والفضيل بن عياض، ثم دخل الشام ومات فيها، وكان يأكل من عمل يده كالحصاد والعمل في البساتين وغير ذلك.
ومن كلامه رحمه الله: إعلم أنّك لن تنال درجة الصالحين حتى تجتاز ست عقبات:
أولاها: تغلق باب النعمة وتفتح باب الشدة.
والثانية: نغلق باب العز وتفتح باب الذل.
والثالثة: تغلق باب الراحة وتفتح باب الجهد.
والرابعة: تغلق باب النوم وتفتح باب السهر.
والخامسة: تغلق باب الغنى وتفتح باب الفقر.
والسادسة: تغلق باب الأمل وتفتح باب الاستعداد للموت.
حاتم الأصم: هو أبو عبد الرحمن حاتم بن علوان المعروف بالأصم من أكابر مشايخ خرسان، كان تلميذ شقيق البلخي وأستاذ أحمد بن خضرويه، ويقال: إنّه لم يكن أصم وإنّما تصامم مرة فسمي بذلك.
قال الأستاذ أبو الدقاق رحمه الله تعالى: "جاءت امرأة فسألت حاتما عن مسألة فاتفق أنّه خرج منها في تلك الحالة صوت فخجلت فقال حاتم: ارفعي صوتك، فأرى من نفسه أنّه أصم، فسرّت المرأة بذلك، وقالت: إنّه لم يسمع الصوت، فغلب عليه اسم الأصم".
أحمد الأنطاكي: هو أبو علي أحمد بن عاصم الأنطاكي من أقران بشر بن الحارث وسري السقطي والحارث المحاسبي، وكان أبو سليمان الداراني يسميه جاسوس القلوب لحدة فراسته.
ومن كلامه رضي الله عنه: اذا طلبت قلبك فاستن عليه بحفظ اللسان.
أبو حمزة البزار (توفي 289) كان من أقران الجنيد ومات قبله، وصحب سري السقطي والحسن المسوحي، وكان فقيها عالما بالقراءات، وكان أحمد بن حنبل يقول له في المسائل: ما تقول يا صوفي.
ومن كلامه رضي الله عنه: "من رزق ثلاثة أشياء فقد نجا من الآفات: بطن خال مع قلب قانع، وفقر دائم مع زهد حاضر، وصبر كامل مع ذكر دائم".
أبو يزيد البسطامي (188-261) هو طيفور بن عيسى البسطامي كان جدّه مجوسيا وقد أسلم، وكانوا ثلاثة أخوة: ءادم وطيفور وعلي وكانوا زهادا عبادا، أما أبو يزيد فكان أجلّهم حالا.
من كلامه رضي الله عنه: "لو نظرتم إلى رجل يرتقي في الهواء فلا تقتدوا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة".
شقيق البلخي (توفي 194) هو أبو علي شقيق بن إبراهيم البلخي من مشايخ خرسان وكان أستاذ حاتم الأصم قيل: كان سبب زهده أنّه كان من أبناء الأغنياء خرج للتجارة إلى أرض الترك وهو حدث فدخل بيتا للأصنام فرأى خادما للأصنام قد حلق رأسه ولحيته ولبس ثيابا أرجوانية، فقال شقيق للخادم: إن لك صانعا حيا عالما قادرا فاعبده ولا تعبد هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع فقال: إن كان كما تقول فهو قادر على أن يرزقك ببلدك، فلماذا أتعبت نفسك بالمجيء إلى ههنا للتجارة فانتبه شقيق وأخذ في طريق الزهد.
من كلامه رضي الله عنه: "إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر إلى ما وعده الله ووعده الناس فبأيهما يكون قلبه أوثق".
وقال أيضا: "تُعرف تقوى الرجل في ثلاثة أشياء: في أخذه ومنعه وكلامه".
محمد بن الفضل البلخي (توفي سنة 319) هو أبو عبد الله محمد بن الفضل البلخي سكن سمرقند ومات فيها صحب أحمد ابن خضرويه وغيره، وكان أبو عثمان الحيري يميل اليه جدا.
من كلامه رضي الله عنه: "إذا رأيت المريد يستزيد من الدنيا فذلك من علامات إدباره".
وسئل عن الزهد فقال: "النظر إلى الدنيا بعين النقص، والإعراض عنها تعززا وتشرفا".
سهل التستري (200-283) هو أبو محمد سهل بن عبد الله التستري أحد أئمة القوم، لم يكن في وقته نظير في المعاملات والورع، وكان صاحب كرامات، ولقي ذا النون المصري بمكة وقال: قال: كنت ابن ثلاث سنين وكنت أقوم الليل أنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار وكان يقوم الليل، فربما كان يقول: إذهب يا سهل فنم فقد شغلت قلبي. قال لي خالي (محمد بن سوار) يوما: ألا تذكر الله تعالى الذي خلقك، فقلت كيف أذكره، فقال: قل بقلبك عند تقلبك في ثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك الله معي الله ناظر إلي، الله شاهدي فقلت ذلك ثلاث ليال، ثمّ أعلمته. فقال لي: قل في كل ليلة سبع مرات فقلت ذلك ثم أعلمته فقال لي: قل في كل ليلة احدى عشر مرة، فقلت ذلك فوقع في قلبي حلاوة، فلما كان بعد سنة قال لي خالي: إحفظ ما علمتك وداوم عليه إلى أن تدخل القبر فانّه ينغعك في الدنيا والآخرة، فلم أزل على ذلك سنين فوجدت لها حلاوة في سري.
أحمد بن الجلاء: هو أبو عبد الله أحمد بن يحيى الجلاء بغدادي الأصل أقام بالرملة ودمشق وكان من أكابر مشايخ الشام صحب ذا النون المصري وأباه الجلاء، من كلامه رضي الله عنه: "من استوى عنده المدح والذم فهو زاهد، ومن حافظ على الفرائض فهو عابد، ومن رأى الأفعال كلها من الله عز وجل فهو موحّد".
بنان الجمال (توفي سنة 316) هو أبو الحسن بُنان بن محمد الجمال واسطي الأصل، أقام بمصر وكان عظيم الشأن وصاحب كرامات.
يقول أبو علي الروذباري: "ألقي بنان الجمال بين يدي السبع يشمه ولا يضره، فلما أخرج قيل له: ما الذي كان في قلبك حين شمّك السبع، قال كنت أفكر في اختلاف العلماء في سؤر السباع".
بشر الحافي (150-227) هو أبو نصر بشر بن الحارث الحافي: أصله من مرو، وقد سكن بغداد ومات فيها، وكان كبير الشان.
وسبب توبته أنه أصاب في الطريق ورقة مكتوب فيها اسم الله عز وجل وقد وطئتها الأقدام، فأخذها واشترى بدرهم كان معه غالية (نوع من الطيب) فطيب بها الورقة وجعلها في شق حائط، فرأى فيما يرى النائم كأنّ قائلا يقول: يقول لك إلهك: يا بشر طيبت اسمي لأطيبن اسمك في الدنيا والآخرة.
ومن كلامه رضي الله عنه: "لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس".
عمر الحداد (توفي سنة 260) هو أبو حفص عمر بن مسلمة الحداد من قرية يقال لها: كوردا باذ في طريق بخارى، وكان أحد الأئمة والسادة.
قال: "من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال".
سمنون بن حمزة (توفي سنة 290) هو أبو الحسن سمنون بن حمزة، صحب السري السقطي وأبا أحمد القلانسي ومحمد بن علي القصاب، وكان سمنون ظريف الخلق، أكثر كلامه في المحبة، كما كان كبير الشأن.
سعيد الحيري (توفي سنة 298) هو أبو عثمان سعيد بن اسماعيل الحيري كان من الري ويقيم في نيسابور، صحب شاه الكرماني ويحيى بن معاذ الرازي، ثم ورد نيسابور مع شاه الكرماني على أبي حفص الحداد وأقام عنده وتخرج به، وزوجه أبو حفص ابنته.
عبد الله بن خبيق: هو أبو محمد عبد الله بن خبيق من زهاد الصوفية، كوفي الأصل وسكن أنطاكية وصحب يوسف بن أسباط.
ومن كلامه رضي الله عنه: "أنفع الخوف ما حجزك عن المعاصي، وأطال منك الحزن على ما فاتك، وألزمك الفكر بقية عمرك، وأنفع الرجاء ما سهل عليك العمل".
وقال: "طول الاستماع الى الباطل يطفىء حلاوة الطاعة من القلب".
أحمد الخرّاز (توفي سنة 277) هو أبو سعيد أحمد بن عيسى الخرّاز من أهل بغداد، صحب ذا النون المصري والسري السقطي وبشر بن الحارث.
قال: "صحبت الصوفية ما صحبت فما وقع بيني وبينهم خلاف، قالوا: لماذا، قال، لأني كنت معهم على نفسي".
أحمد بن خضرويه (توفي سنة 240) من كبار مشايخ خرسان وكان كبيرا في الفتوة، صحب أبا تراب النخشبي، قدم نيسابور وزار أبا حفص، وخرج إلى بسطام في زيارة أبي يزيد البسطامي وكان أبو يزيد يقول عنه: "أستاذ أحمد".
ومن كلامه رضي الله عنه: "لا نوم أثقل من الغفلة، ولا رق أملك من الشهوة، ولولا ثقل الغفلة عليك لما ظفرت بك الشهوة".
ابراهيم الخواص (توفي سنة 291) هو أبو اسحاق ابراهيم بن أحمد بن اسماعيل الخواص، من أقران الجنيد والنوري وله في التوكل والرياضيات حفظ كبير.
من كلامه رضي الله عنه: "دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرءان الكريم بالتدير، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرّع عند السحر، ومجالسة الصالحين".
عبد الحمن الداراني (توفي سنة 215) هو أبو سليمان عبد الرحمن بن عطية الداراني من قرية داران إحدى قرى دمشق.
من كلامه رضي الله عنه: "ربما تقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة".
وقال: "إذا سكنت الدنيا في القلب رحلت منه الآخرة، وأفضل الأعمال خلاف هوى النفس، ولكل شىء صدأ وصدأنور القلب شبع البطن".
أحمد الدينوري (توفي سنة 340) هو أبو العباس أحمد بن عمر الدينوري صحب يوسف بن الحسين وابن عطاء والجريري، وكان عالما فاضلا، ورد نيسابور وكان يعظ الناس، ويتكلم على لسان المعرفة، ثمّ ذهب الى سمرقند ومات بها.
ومن كلامه رضي الله عنه: "لسان الظاهر لا يفيد حكم الباطن".
يحيى بن معاذ الرازي (توفي سنة 258) هو أبو زكريا يحيى بن معاذ الرازي الواعظ فريد عصره، له لسان في الرجاء وكلام في المعرفة، خرج الى بلخ وأقام فيها مدة، ثمّ رجع الى نيسابور.
ومن كلامه رضي الله عنه: "كيف يكون زاهدا من لا ورع له، تورّع عما ليس لك ثم ازهد فيما لك".
وقال: "الزهد ثلاثة أشياء: القلة والخلوة والجوع".
يوسف بن الحسين الرازي (توفي سنة 304) هو أبو يعقوب يوسف بن الحسين الرازي كان شيخ الري والجبال في وقته عالما أديبا، وصحب ذا النون المصري وأبا تراب النخشبي ورافق أبا سعيد الخراز.
قال: "رأيت ءافات الصوفية في صحبة الأحداث، ومعاشرة الأضداد، ومرافقة النساء".