( هل اتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا )
رسالة :
العروة الوثقى في وجوب اتخاذ الشيخ القدوة
عن المرء لا تسال وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
...........................................................................
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد اشرف الأنبياء والمرسلين وعلى اله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
من يا خد العلم من شيخ مشافهة
يكن عن الزيغ والتصحيف في حرم
ومن يكون أخذا للعلم من صحف
فعلمه عند أهل العلم كالعدم
اعلم انه في طريق القوم لا بد من شيخ مرشد يرشدك إلى طريق الحق ، مرب عن الأخلاق السيئة ، وهذا الشيخ يجب ان يكون نائبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وان يكون عالما لان الجاهل لا يصلح للإرشاد ، وان يكون معرضا عن حب الدنيا وحب الجاه ويكون محسنا ومتصفا بمحاسن الأخلاق كالصبر والشكر والتوكل واليقين والسخاوة والقناعة والحلم والوفاء والوقار والسكون إلى غير ذلك
ومثل هذا الشيخ نور من أنوار النبي صلى الله عليه وسلم يصلح للاقتا به ولكن وجوده نادر واعز من الكبريت الأحمر كما هو متعارف عليه وان ساعدتك السعادة فوجدت شيخا كما ذكرناه فلا تفارقه أبدا وكن خادما له باليد والمال والجاه واحفظ وقته وأوقاته وسيرته لقوله تعالى ( وكونوا مع الصادقين)
ولما ورد في الحديث :
0 كن مع الله وان لم تكن مع الله فكن مع من كان مع الله فانه يوصلك إلى الله إن كنت معه
وفي حديث أخر :
(العالم في قومه كالنبي في أمته )
فليكن الاهتمام به وبأمره وهذا من أعظم الأشياء عند المريد الصادق
قال الأستاذ احمد العلاوي :
ومن لم يغني المريد عند نظرته فهو في قيد الجهل حاط به الجهل
فلا شيخا الا من يجود بسره حريص على المريد من نفسه اولى
ويرفع عنه حجبا كانت لقلبه مانعة عن الوصول للمقام الاعلى
ويدخل حضرة الله من بعد فصله ويرى ظهور الحق اينما تولى
ويفنى عن العالم طرا بأسره فلا قاصرات الطرف يهوى ولا خلا
فهذا تالله شيخا ليس كمثله فهو واحد العصر فريدا في الجملة
فهو النجم الثاقب ان رمت قربه وان نفسك عزت فهو منها اولى
كساه رسول الله ثوب خلافة تحلى بذاك الثوب بعدما تخلى
وكفى هو الوارث لسر ربه صفي نقي القلب بالحسن تحلى
اخذ عن الرسول علما كفى به انه علم الباطن في القلب تدلى
هم بدل للرسل في كل امة قاموا بدعوة الحق واستوجبوا الفضل
وضحوا معنى السبيل للحق وقاموا شهودا على التحقيق كما قام الأولى
ويقول الشيخ الجيلي رحمه الله :
وان ساعد المقدور أو ساقك القدر
إلى شيخا في الحقيقة بارع
فقم في رضاه واتبع لمراده
ودع كل ما من قبل كنت تسارع
ولا تعترض فيما جهلت من أمره
عليه فان الاعتراض تنازع
ففي قصة الخضر الكريم كفاية
بقتل غلام والكليم يدافع
فلما اضاء الصبح عن ليل سره
وسل حساما للغياهب قاطع
أقام له العذر الكليم وانه
كذلك علم القوم فيه بدائع
ومن الأسرار المستنبطة من سورة الفاتحة :
اعلم ان الله سبحانه وتعالى قال ( اهدنا الصراط المستقيم ) لم يقتصر عليه بل قال أيضا ( صراط اللذين أنعمت عليهم ، وهذا يدل على ان المريد لا سبيل له الى الوصول الى مقامات الهداية والمكاشفة إلا إذا اقتدى بشيخ يهديه الى سواء السبيل ويجنبه مواقع الاغاليط والأضاليل وذلك لان النقص غالب على أكثر الخلق وعقولهم غير وافية بادراك الحق وتمييز الصواب من الغلط فلابد من كامل يقتدي به الناقص حتى يتقوى بنور عقل الكامل فحينئد يصل الى مدارج السعادات ومعارج الكمالات .
وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستادنه في الجهاد .
فقال له : احي والداك
فقال الرجل : نعم
فقال صلى الله عليه وسلم : ففيها فجاهد
ففي هذا الحديث دليل على إن الدخول في السلوك والمجاهدات السنة فيه إن يكون على يد عارف بالله , فيرشد إلى ما هو الأصلح فيه والصحيح بالنسبة الى حال السالك لان هذا الصحابي لما أراد الخروج الى الجهاد لم يستبد برأيه حتى استشار من هو اعلم منه واعرف .
وهذا كما تعلم في الجهاد الأصغر فكيف به في الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس وهواها .
فإذا أردت أيها العبد إن تقتدي برجل فلتنظر هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين وهل الحاكم عليه الإلهام والوحي أم الهوى ؟
فاذا كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة كان أمره فرطا
ولهذا وجب على الرجل إن ينظر في شيخه وقدوته فان وجده كذلك فليبتعد عنه ، وان وجده ممن غلب عليه ذكر الله تعالى وأتباع السنة وأمره غير مفروط عليه بل هو حازم في أمره فليستمسك به ويعظ عليه بالنواجذ فهو دليل الله فاتخذه كفلا
قال الله سبحانه وتعالى حاكيا قول موسى للخضر عليهما السلام ( هل اتبعك على ان تعلمني مما علمت رشدا ) فلتعلم ان المريد لا ينتفع بعلوم الشيخ وأحواله إلا إذا إنقاذ إليه الانقياد التام ووقف عند أمره ونهيه مع اتقاده الأفضلية والاكملية ولا يغني احدهما عن الاخر
وذلك كحال بعض الناس يعتقد في الشيخ غاية الكمال ويظن ان ذلك يكفيه في نيل غرضه وحصول مطلبه وهو غير ممثل ولا فاعل لما يأمره به الشيخ او ينهاه عنه .
فهذا سيدنا موسى عليه السلام مع جلالة قدره وفخامة أمره طلب لقاء الخضر عليه السلام وسال السبيل إلى ملاقاته وتحمل مشاق ومتاعب في سفره ، قال تعالى ( لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا )
ومع هذا كله لم يمثتل نهيا واحدا كما قال تعالى ( فلا تسألني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا ) فما انتفع بعلوم الخضر عليه السلام مع يقين موسى عليه السلام الجازم ان الخضر اعلم منه بشهادة الله سبحانه وتعالى بقوله عندما قال موسى لا اعلم احد اعلم مني ، قال بلى عبدنا الخضر .
وما خص علم دون علم ولكن موسى عليه السلام أولا ما علم إن استعداده لا يقبل شيئا من علوم الخضر عليه السلام ، وإما الخضر فانه علم ذلك من أول وهلة فقال ( انك لن تستطيع معي صبرا ) وهذا من شواهد علميه الخضر عليه السلام فلينظر العاقل في أدب هاذين السيدين .
قال موسى عليه السلام ( هل اتبعك على إن تعلمني مما علمت رشدا )أي : هل تأذن لي في إتباعك لا تعلم منك ؟
انظر ما في هذه الكلمات من حلاوة الأدب والتي يذوقها كل سليم الذوق .
وهنا قال الخضر عليه السلام ( فان اتبعتني فلا تسالني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا ) .
انظر هنا ، فما قال الخضر عليه السلام فلا تسألني وسكت فيبقى موسى عيه السلام حيرانا متعطشا بل وعده ان يحدث له ذكرا
أي : علما بالحكمة فيما بعد .
فاكملية الشيخ في العلم المطلوب منه المقصود لأجله لا تغني المريد شيئا إذا لم يكن ممثتلا لااومر الشيخ ومجتنبا لنواهيه .
وما ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهلة
وإنما تنفع اكملية الشيخ من حيث الدلالة الموصلة الى المقصود وألا فالشيخ لا يعطي المريد إلا ما أعطاه استعداده ، واستعداده منطو فيه وفي أعماله .
وذلك كالطبيب الماهر إذا حضر المريض وأمره باد وية فلم يستعملها المريض فما عسى تغني عنه مهارة الطبيب ؟
وعدم امثتال المريض هنا دليل على أن الله سبحانه وتعالى ما أراد شفاء علته ، لان الله سبحانه وتعالى إذا أراد أمرا هيا له أسبابه ، وإنما وجب على المريد طلب الأكمل الأفضل من المشايخ خشية أن يلقي قياده بين جاهل بالطريق الموصل إلى المقصود فيكون ذلك عونا على هلاكه ، فان فائدة الشيخ إنما هي اختصار الطريق للمريد ، ومن سلك من غير شيخ تاه وقطع عمره ولم يصل إلى مقصده ، لان مثال الشيخ مثل دليل الحجاج إلى مكة في الليالي المظلمة .
ولو إن طريق القوم يوصل إليها بالفهم من غير شيخ يسير بالطالب فيها لما احتاج مثل حجة الإسلام الإمام الغزالي رضا الله عنه والشيخ عزا لدين بن عبد السلام إلى اخذ ادبهما من شيخ مع أنهما كان يقولان قبل دخولهما طريق القوم كل من قال إن ثمة طريقا للعلم غير ما بأيدينا فقد افترى على الله عز وجل .
فلما دخلا طريق القوم أصبحا يقولان : قد ضيعنا عمرنا في البطالة والحجاب واثبتا طريق القوم ومدحاها .
هذا ومن مطالعتنا لما بين أيدينا من الكتب رأينا اعتراف الإمام احمد بن حنبل رضي الله عنه لأبي حمزة البغدادي ، واعتراف الإمام احمد بن سيرج رحمه الله تعالى لأبي القاسم الجنيد ، وطلب الإمام الغزالي رحمه الله شيخا يدله على الطريق مع كونه حجة الإسلام ، وكذلك طلب الشيخ عزا لدين بن عبد السلام شيخا مع انه لقب بسلطان العلماء ، فكان رضي الله عنه يقول : ما عرفت الإسلام الكامل إلا بعد اجتماعي على الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه .
فإذا كان هادان الإمامان قد احتاجا إلى الشيخ مع سعة علمهما بالشريعة فغيرهما من أمثالنا أحوج وأولى .
قال الشيخ احمد الزر وق رضي الله عنه : اخذ العلم من المشايخ أتم من أخذه من دونهم ( بل هو آيات بينات في صدور اللذين أوتوا العلم ) وقال تعالى ( واتبع سبيل من لناب إليه )
فمن هنا لزمت المشيحة .
فالصحابة رضوان الله عليهم اخذوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد اخذ صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام واتبع إشاراته في ان يكون عبدا نبيا واخذ التابعون رضوان الله عليهم عن الصحابة رضي الله عنهم فكان لكل واحد من الصحابة جماعة يختصون به كابن سيرين وابن المسيب والأعرج من أبي هريرة ، وطاووس ووهب ومجاهد لابن عباس رضي الله عنهما وغير ذلك ، فاخذ العلم جلي وواضح ,
وأما الإفادة بالهمة والحال فقد أشار إليها انس رضي الله عنه بقوله : ما نفضنا التراب عن أيدينا من دفنه عليه الصلاة والسلام حتى انكرنا قلوبنا ، فإبان أن رؤية شخصه الكريم كانت نافعة لهم في قلوبهم ، آذ من تحقق بحاله لم يخل حاضروه منها ، فلذلك أمر بصحبة الصالحين ونهى عن صحبة الفاسقين .
إن أسباب الهداية وان اجتمعت بالكلية لا يهتدي بها الناس ولا يؤمنون إلا بجذبات العناية كما قال صلى الله عليه وسلم : لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا .
فالاهتداء بهداية الله تعالى وبالسيف كما قال عليه الصلاة والسلام : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله ، وكما قال عليه الصلاة والسلام : أنا نبي السيف ونبي الملحمة ،
وأهل الباطل يرون الحق باطلا والباطل حقا وذلك من عمي قلوبهم وسخافة عقولهم فيجادلون الأنبياء والأولياء جهلا منهم وظلالة ، ويسعون في أبطال الحق .
وأما أهل الحق فينقادون للأنبياء أو للأولياء ويستسلمون لهم من غير عناد ولا جدال وذلك لأنهم ينظرون بنور الله فيرون الحق حقا ويتبعونه ويرون الباطل باطلا فيجتنبونه ولا جرم أنهم يتخذون آيات الله جدا لا هزؤا فيأتمرون بما أمروا به وينتهون عما نهوا عنه
ولتعلم إن رحمة الله سبحانه وتعالى في الدنيا تعم المؤمن والكافر لأنه لايؤاخدهم بما كسبوا في الدنيا بقطع الرزق ، وتخص يوم القيامة بالمؤمن والعذاب يخص الكافر ، قال تعالى ( وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا )’ أي إنا أهلكنا تلك القرى بعد إن كان من سنننا إن تعم رحمتنا المؤمن والكافر في الدنيا لأنهم ضموا مع كفرهم الظلم ومن سنن الله عزو وجل أن لا يمهل الظالم ولا يهمله قال عليه الصلاة والسلام ( الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم *)
نظرات في قصة موسى والخضر عليهما السلام
ان في هذه القصة الشريفة من العبر والإفادة م لا يدخل تحت الحصر والعد ، ومن هذه العبر ما هو موضوع رسالتنا هذه ( في وجوب اتخاذ الشيخ القدوة )
قال الله تعالى ( وإذ قال موسى لفتاه لا ابرح حتى ابلغ مجمع البحرين او امضي حقبا @ فلما بلغ مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا @ فلما جاوزا قال لفتاه أتنا غدائنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا @ قال ارائيت إذ آوينا إلى الصخرة فاني نسيت الحوت وما إنسانيه إلا الشيطان أن اذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا @ قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على اثارهما قصصا @فوجدا عبدا من عبادنا أتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما @ قال له موسى هل اتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا @ قال انك لم تستطع معي صبرا @ وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا @ قال ستجدني انشاءالله صابرا ولا اعصي لك أمرا @ قال فان اتبعتني فلا تسألني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا @
هذا وقد أنكر اليهود لعنهم الله أن يكون موسى المذكور في الآيات هو موسى بن عمران عليه السلام وذلك لاستبعادهم أن يكون كليم الله المختص بالمعجزات الباهرة مبعوثا للتعلم والاستفادة ممن هو دونه ولهذا لا يبعد عن العامل الكامل أن يجهل بعض الأشياء فالفاضل قد يكون مفضولا من وجه ، بل المراد منه صاحب التوراة وإطلاق هذا الاسم يدل عليه لان الله عزو وجل لو أراد غيره لقيده تمييزا لغيره
والفتى هو يوشع بن نون بن افرايم ابن يوسف وهو ابن أخت موسى عليه السلام وكان من أكابر أصحابه ولم يزل معه إلى أن مات عليه السلام وخلفه في شريعته وكان من أعظم بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام .
ولقد سماه موسى عليه السلام ( فتاه ) لانه كان يخدمه ويتبعه ويتعلم منه ويسمى الخادم والتلميذ فتى وان كان شيخا واليه يشير القول المشهور : تعلم يا فتى فالجهل عار
وإنما قال فتاه تعليما للأدب ، قال عليه الصلاة والسلام : ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي ) من هنا نعلم أن شان الصاحب خطر ونظير ذلك إن نبينا صلى الله عليه وسلم لما أراد الهجرة لم يرض برفقته في سفره إلا الصديق رضي الله عنه لكونه من اعز أصحابه وخليفته بعده ، كما إن يوشع بن نون هو خليفة موسى عليه السلام ،
واخبر موسى عليه السلام بأنه قد وطن نفسه على تحمل التعب الشديد والعناء العظيم في السفر لأجل طلب العلم وذلك تنبيه على إن المتعلم لو سار من المشرق إلى المغرب لطلب مسالة واحدة لحق له ذلك وكل من لم يكن له أستاذ يصله بسلسلة الأتباع ويكشف عن قلبه القناع فهو في هذا الشأن لقيط لا أب له ودعي لا نسب له
وفي الآيات عدة إشارات منها :
إن شرط المسافر أن يطلب الرفيق ثم يأخذ الطريق
قال الاستاد احمد العلاوي :
نطلب منه في الطريق يجعلني فيها رفيق
نريه معنى الطريق خالصا لوجه الله
وقال الاستاد محمد الفيتو ري
يا طالب المعرفة ومقامات الصفا اصحب خلا قد رفا بعبودية الله
ومنها إن يكون شرط الرفيقين أن يكون احدهما أميرا والتاني موافقا له يرافقه في ذلك
ومنها ان يعلم الرفيق عزيمته ومقصده ويخبر عن مدة سفره لكون الرفيق واقفا على أحواله فان كان موافقا له يرافقه في ذلك .
قال الاستاد احمد العلاوي :
يرافقني في أيام لا نطلب منه أعوام
فان حصل المرام يكون عبدا لله
--- ومنها :
انه من شرط الطالب الصادق أن تكون نيته في طلب شيخ يقتدي به إن لا يبرح حتى يبلغ مقصوده ويظفر به ، فان طلب الشيخ إنما هو طلبا للحق على الحقيقة
ومنها :
إن الطالب الصادق إذا قصد خدمة شيخ كامل يسلكه طريق الحق يلزمه مرافقة رفيق التوفيق ومعه حوت قلبه الميت بالشهوات النفسانية المملح بحب الدنيا وزينتها ومجمع البحرين هو الولاية بين الطالب وبين الشيخ ، ولم يظفر المريد بصحبة الشيخ مالم يصل إلى مجمع ولايته .
فافهم هذا وتدبره فانه نفيس .
وعند مجمع الولاية (عين الحقيقة ) فبأول قطرة من تلك العين تقع على حوت قلب المريد فيحيا ويتخذ سبيله في بحر الولاية سربا
قال الاستاد محمد الفيتو ري هنا :
صلي يا ربي على المربي احيالي قلبي بفك الطلسم
--- ومنها إن الله يحول بين المرء وقلبه فينسى المريد قلبه حيث فقده وينسى القلب المريد إذا وجد الشيخ
--- ومنها ان المريد لو تطرقت إليه الملالة في إثناء السلوك وأصابت قلبه الكلالة وسولت له نفسه التجاوز عن خدمة الشيخ وترك صحبته حتى يظن انه لو سافر عن خدمته واشتغل بطاعة ربه وجاهد نفسه في طلب الحق تعالى لعله يصل مقصده ويحصل مقصوده بلا واسطة الشيخ والإقتداء به فهيهات لهذا الأمر هيهات فانه ظن فاسد ومتاع كأسد وانه يضيع عمره ويتعب نفسه ويضل عن سبيل الرشاد ويبعد عن طريق السداد إلا إذا أدركته العناية الربانية وردت إليه صدق الإرادة .
--- ومنها إن صحبة الشيخ الكامل غذاء للمريد لاشتمالها على ما يجري مجرى الغداء للروح من الأقوال الطيبة والأفعال الحسنة ومتى جاوز صحبته اتعب نفسه بلا فائدة الوصول ونيل المقصود ولا يحمل على هذا إلا شيطان الخذلان فيلزم الرجوع والعودة إلى ملازمة الخدمة في مرافقة رفيق التوفيق .
قال الاستاد محمد الفيتو ري مشيرا الى ذلك :
ادم الزمان خلفه الرحمن لا تكن شيطان تشقى بلقاه
كما رجع موسى ويوشع عليهما السلام قال تعالى ( يا أيها اللذين امنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) أي : في صحبتهم ولا تكونوا مع الكاذبين .
العلم اللدني
قال تعالى ( وعلمناه من لدنا علما ) وكلمة ( لدنا ) مع ان العلوم كلها من لدنه الا ان بعضها يتاتى بواسطة تعليم الخلق ولا يسمى ذلك علما لدنيا ، والعلم اللدني هو الذي ينزله الله عز وجل في القلب من غير واسطة احد ولا سبب مألوف من خارج .
قال عليه الصلاة والسلام ( نفس من أنفاس المشتاقين خير من عبادة الثقلين ) وقال عليه الصلاة والسلام ( ركعتان من رجل زاهد قلبه خير وأحب إلى الله من عبادة المتعبدين إلى أخر الدهر ) ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه قليل , قال تعالى ( وقليل من عبادي الشكور ) وقال تعالى ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ومن هنا يتبين لنا رفعة الصحابة رضي الله عنهم وعظمة رتبتهم ومكانتهم من الله عزو جل فهم والله المشتاقين والزاهدين الشاكرين وهم نجوم بهم يهتدون .
وفي الآية ( فوجدا عبدا من عبادنا )
أي حر من رق عبودية غيرنا فهو من أحرارنا اللذين حررناهم من رق عبودية الاغيار واصطفيناهم من الأخيار .
قال الاستاد احمد العلاوي :
يا من تريد تدري فني فاسأل عني الألوهية
أما البشر لا يعرفني أحوالي عنه غيبية
اطلبني عند التداني من وراء العبودية
اما الضر وف والأكوان فليس لي فيها بقية
إني مظهر رباني والحال يشهد عليا
أنا فياض الرحمن ظهرت في البشرية
--- وإما قوله تعالى ( أتيناه رحمة من عندنا )
أي جعلناه قابلا لفيض نور من أنوار صفاتنا بلا واسطة
( وعلمناه من لدنا علما ) وهو علم ذات وصفات الله عز وجل والذي لا يعلمه احد إلا بتعليم الله سبحانه وتعالى له ، واعلم إن كل علم يعلمه الله تعالى عباده ويمكن أن يتعلموا ذلك العلم من غير الله سبحانه وتعالى فانه ليس من جملة العلم اللدني لأنه يمكن ان يتعلم من لدن غيره ويدل على ذلك قوله تعالى 0( وعلمناه صنعة لبوس لكم ) فان علم صنعة اللبوس مما علمه الله تعالى داوود عليه السلام فلا يقال انه العلم اللدني لأنه يحتمل أن يتعلم من غير الله تعالى فيكون من لدن ذلك الغير .
فالعلم اللدني ما يتعلق بلدن الله سبحانه وتعالى وهو علم معرفة ذاته وصفاته ، قال الجنيد رضي الله عنه : العلم اللدني ما كان تحكما على الأسرار بغير ظن فيه ولا خلاف ولكنه مكاشفات الأنوار عن مكنونات المغيبات وذلك يقع للعبد إذا زم جوارحه عن جميع المخلوقات وافني حركاته عن كل الارادات وكان شبحا بين يدي الحق سبحانه وتعالى بلا تمن ولا مراء
قال الشيخ محي الدين رضي الله عنه : باب الملكوت والمعارف من المحال أن يفتح وفي القلب لمحة للعالم بأسره .
الملك والملكوت كذاك الجبروت فكلها نعوت والدات مسماه
فغب عن الصفات وأفنى في ذات الذات
هذي تلونات مصيرها لله
والعلم اللدني يحصل بتصفية القلب وتهيئة المحل وعدم الميل الى ما سوى الله تعالى وهو طريق الكشف ، والكشف أنواع أعلاها أسرار ذاته سبحانه وتعالى وأنوار صفاته وأثار أفعاله
والعلم اللدني هو العلم الإلهي الشرعي المسمى في مشرب اهل الله (علم الحقيقة ) أي العلم بالله سبحانه وتعالى من حيث الارتباط بينه وبين الخلق وانتشاء العالم منه بقدر الطاقة البشرية إذ منه ما ليس للطاقة البشرية وهو ما وقع فيه الكمل في ورطة الحيرة واقروا بالعجز عن حق المعرفة .
وهذا العلم الجليل بالنسبة الى سائر العلوم كالشمس بالنسبة إلى الذرات وكالبحر بالنسبة للقطرات .
فعلوم أهل الله مبنية على الكشف والعيان وعلوم غيرهم على الخواطر الفكرية والذهنية وبداية طريقهم التقوى والعمل الصالح وبداية طريق غيرهم تحصيل المناصب وجمع الحطام الذي لا يدوم .
تعلمنا بلا حرف وصوت قرانا بلا سهوا وفوتا
يعني بطريق الفيض الإلهي والإلهام لا بطريق التعليم باللفظ والتدريس القولي .
جئنا بعلم رقيق لا يحتمله الكلام إلا لذوي التصديق جاءهم وحي والهام
فمقام العلم الظاهر من مقام العلم الباطن بمنزلة الظاهر من الباطن ، حيث يتعلق العلم الظاهر بظاهر الشريعة وصورها ، والعلم الباطن بمنزلة الباب من البيت ومن أراد دخول البيت فليأت من الباب ,
واعلم إن التحقيق الحقيقي في هذا المقام هو إن العلم المأمور موسى عليه السلام بتعلمه من الخضر هو العلم الباطني بطريق الإشارة لا العلم الباطني بطريق المكاشفة ولا العلم الظاهر ي المتعلم بطريق العبارة .
والدليل على ما كتبناه وسطرناه إرسال الحق سبحانه وتعالى موسى عليه السلام إلى عبده الخضر وعدم تعليمه بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام ، وتعليم الخضر بطريق الإشارة بالأمور الثلاثة
ولكن لما كان الظاهر بالنظر إلى غلبة جانب العلم الظاهر في وجود موسى عليه السلام أن يطلب تعلمه بطريق العبارة ، لا بطريق الإشارة وطريق العلم اللدني طريق الإشارة لا طريق العبارة فقال الحق سبحانه وتعال على لسان الخضر عليه السلام ( انك لن تستطيع معي صبرا ) ( وكيف تصبر على مالم تحط به خبرا ) من طريق التعلم بالإشارة لا بالعبارة والغالب علي طريق الإشارة لا طريق العبارة
أما قوله تعالى ( قال له موسى هل اتبعك على ان تعلمني مما علمت رشدا ) فلقد قال موسى عليه السلام للخضر عليه السلام هل أصحبك على شرط أن تعلمن ، وهو استئذان منه في إتباعه له على وجه التعليم ويكفيك دليلا في شرف الأتباع ، أما قوله ( مما علمت رشدا ) أي : علما ذا رشد في ديني ، والرشد إصابة الخير
هذا وقد راعى موسى عليه السلام في سوق الكلام غاية التواضع مع الخضر عليه السلام فينبغي للمرء أن يتواضع مع هو من اعلم منه
ومما يستفيد من الآية إنها تدل على أن موسى عليه السلام راعى أنواع الأدب حيث جعل نفسه تبعا للخضر عليه السلام فقال ك هل اتبعك ؟ واستادن في إتباع هذه التبعية وقر على نفسه بالجهل ولاستاده بالعلم في قوله : على أن تعلمن ، وفي قوله : مما علمت للتبعيض أي : لا اطلب مساواتك في العلوم وإنما أريد بعضا من علومك ، كالفقير يطلب من الغني جزء من ماله ، وقول موسى عليه السلام (مما علمت ) اعتراف بأنه أخذه من الله عزوجل ، وقوله 0 رشدا ) طلب للإرشاد ، أي : ولوله لضل ، وهذا يدل على أن موسى عليه السلام طلب من الخضر أن يعامله بمثل ما عامله به الله عزوجل أي : ينعم بالتعليم كما انعم الله عليه ، لان البدل من الشكر ، قال قتادة رحمه الله : لو كان أحدا مكتفيا من العلم لاكتفى نجي الله موسى ولكنه قال هل اتبعك .
وقال الزجاج رحمه الله : وفيما فعل موسى ما يدل على انه لا ينبغي لأحد إن يترك طلب العلم وان كان قد بلغ النهاية ولهذا ورد في الحديث ( اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد )
فائدة :
قال العلماء رحمهم الله : لا ينافي نبوة موسى عليه السلام وكونه صاحب شريعة أن يتعلم من نبي أخر ما لم يتعلق له بأحكام شريعته من أسرار العلوم الخفية .
واعلم أن تعليم موسى عليه السلام وتربيته بالخضر إنما هو من قبيل تعليم الأكمل وتربيته بالكامل ، لان الله عزوجل قد يطلع الكامل على أسرار يخفيها عن الأكمل ، وإذا أراد إن يطلع الأكمل عليها أيضا فقد يطلعه بالذات بواسطة الكامل ولا يلزم من توسط الكامل ان يكون أكمل الأكمل او مثله ، والكامل كامل مطلقا والأكمل أكمل مطلقا والرجحان للأكمل جدا .
وقول الخضر لموسى أنت على علم علمك الله وأنا على علمني الله ، إنما هو على الامتياز المعتبر بينهما بحسب الغالب في نشأة كل منهما والا فالعلم الظاهر والباطن حاصلان في نشأة كل منهما
ونفهم منه أيضا : جواب ما سبق من قوله عزوجل لموسى عليه السلام ك ان لي عبدا بمجمع البحرين هو اعلم منك ، فالمراد إثبات اعلميته في علم من العلوم الخاصة دون سائرها
هذا وقد انعقد الإجماع على أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم اعلم الخلق وأفضلهم على الطلاق .
وفي الآية السابقة عدة عبر منها :
--- انه من آداب المريد الصادق بعد طلب الشيخ ووجدانه أن يستجيز منه في إتباعه وملازمته وصحبته تواضعا لنفسه وتعظيمه لشيخه بعد مفارقته أهله وأوطانه وترك مناصبه وإتباعه وإخوانه كما كان حال موسى عليه السلام اذ قال للخضر عليه السلام ( هل اتبعك على ان تعلمني مما علمت رشدا ) .
أي : تعلمني طريق الا سترشاد من الله بلا واسطة جبرائيل عليه السلام والكتاب المنزل ومكالمة الحق فان جميع ذلك كان حاصلا له
فإذا قيل : فهل من مرتبة فوق هذه المراتب الثلاثة ؟
فالجواب هو : إن هذه المراتب وان كانت عزيزة جليلة ولكن مجئ جبرائيل عليه السلام يقتضي الواسطة ، وإنزال الكتاب يدل على البعد ، والمكالمة تقتضي الاثنينية ، والرشد الحقيقي من الله للعبد هو أن يجعله قابلا لفيض نور الله بلا واسطة وذلك بتجلي جماله وجلاله والذي كان مطلوبا من موسى عليه السلام بقوله ( ارني انظر إليك )
فان فيه رفع الاثنينية وثبات الوحدة والتي لا يسع العبد فيها ملك مقرب ولانبي مرسل .
--- وفيها كذلك إن المريد إذا ساقه القدر والسعادة إلى شيخ واصل فينبغي له أن يخرج عما فيه من الحسب والنسب والجاه والمنصب والفضائل والعلوم ويرى نفسه كأنه أعجمي لا يعرف الهر من البر ( القط من الفار ) وعليه أن ينقاد أليه واو مره كما كان فان كليم الله موسى عليه السلام لم تمنعه النبوة والرسالة ومجئ جبرائيل عليه السلام وإنزال التوراة ومكالمة الله له وإقتداء بني إسرائيل به ان يتبع الخضر عليه السلام ويتواضع له وترك أهله وأتباعه وكل ما كان له من المناصب والمناقب وتمسك بديل أرادته منقادا لأوامره ونواهيه فنعم المثال والله .
وأما المستفاد من قوله تعالى ( قال انك لم تستطع معي صبرا وكيف تصبر على مالم تحط به خبرا ) .
قال الخضر عليه السلام : انك لن تصبر معي ، والنفي هنا عن استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد كأنه مما لا يصلح ولا يستقيم ، وفيه دليل على أن الاستطاعة مع الفعل .
أما قوله تعالى ( وكيف تصبر على مالم تحط به خبرا ) أي : وكيف تصبر على مالم يحط به علمك ، وهنا إيذان وأعلام بأنه يتولى أمور خفية منكرة للظواهر والرجل الصالح صاحب الشريعة لا يصبر إذا رأى ذلك ويأخذ في الإنكار والمتعلم قسمان :
قسم منه مارس العلوم
وقسم منه لم يمارس العلوم
والأول إذا وصل إلى من هو أكمل منه عسر عليه التعلم جدا لأنه اذا راى شيئا او سمع كلاما ما فربما انكره وكان صوابا ، وهذا من الفته للقيل والقال فهو يغتر بظاهر ه ولا يقف على سره وحقيقته فيقبل على النزاع ويثقل ذلك على الاستاد وإذا تكرر الجدال حصلت النفرة والى ذلك أشار سيدنا الخضر عليه السلام بقوله (انك لن تستطع معي صبرا ) لأنك الفت الكلام والإثبات والإبطال والاعتراض والاستدلال ( وكيف تصبر على مالم تحط به خبرا ) أي : لست تعلم حقائق الأشياء كما هي .
فائدة :
اعلم إن كل واحد من العلمين ( الظاهر والباطن ) موجود في وجود كل من موسى والخضر عليهما السلام الا أن الغالب في نشأة موسى عليه السلام هو العلم الظاهر كما يدل عليه رسالته وقوله للخضر عليه السلام ( هل اتبعك على ان تعلمن مما علمت رشدا ) لان المتعلم من المخلوق انما هو العلم الظاهري المتعلم بالحرف والصوت لا العلم الباطني المتعلم من الله بلا حرف ولا صوت بل بذوق وكشف الهي والهام سبحاني
قال الشيخ احمد العلاوي رضي الله عنه :
أتينا بعلم رقيق لا يحتمله الكلام
الا لذوي التصديق جاءهم وحي والهام
وذلك لان جميع علوم الباطن إنما تحصل بالذوق والوجدان والشهود والعيان لا بالدليل والبرهان وهي ذوقيات لا نظريات فأنها ليست بطريق التأمل السابق ولا بطريق التعلم اللاحق بترتيب المبادي والمقدمات واعتبار حصولها بطريق الذوق بغير واسطة .
والغالب في نشأة الخضر عليه السلام هو العلم الباطني كما يدل على ولايته وقوله لموسى عليه السلام ( انك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على مالم تحط به خبرا ) يعني : بحسب غلبة والرسالة على جانب علم الباطن وعلم الولاية
وفي هذه الآية إشارة على أن يكون المريد ثابت الإرادة بحيث لو يرده الشيخ مرة بعد مرة ولا يقبله امتحانا له في صدق الإرادة يلازم عتبة بابه ويكون اقل من الذباب ، كما كان حال كليم الله موسى عليه السلام فان الخضر عليه السلام كان يرده بقوله ( انك لن تستطيع معي صبرا ) أي : كيف تصبر على فعل يخالف مذهبك ظاهرا ولم يطلعك الله على الحكمة في إتيانه باطنا، ومذهبك انك تحكم بالظاهر على ما انزل الله عليك من علم الكتاب ، ومذهبي أم احكم بالباطن على ما امرني الله من العلم اللدني وقد كوشفت بحقائق الأشياء ودقائق الأمور في حكمة إجرائها ، وذلك لان الله عزوجل أفناني عني بهويته وأبقاني بألوهيته , فبه أبصر وبه اسمع وبه انطق وبه اخذ وبه أعطي وبه افعل وبه اعلم فاني لا اعلم مالم يعلم .
وما قوله تعالى ( قال ستجدني انشاءالله صابرا ولا اعصي لك أمرا ) قال موسى عليه السلام ستجدني انشاءالله صابرا معك غير معترض عليك ، والصبر : الحبس ، يقول صبرت نفسي على كذا أي حبستها .
وتعليق الوعد بالمشيئة أما طلبا لتوفيقه سبحانه وتعالى في الصبر ومعونته أو تيمنا به، أو علما منه عليه السلام بشدة الأمر وصعوبته ، لان الصبر من مثله عليه السلام عند مشاهدة الفساد شديد جدا لا يكون الا بتأييد الله تعالى
وقيل إنما اسثتنى عليه السلام لأنه لم يكن على ثقة فيما التزم به من الصبر ، وهذه عادة الصالحين .
وأما قوله عليه السلام ( ولا اعصي لك أمرا ) أي : ستجدني صابرا أو غير عاص ، أي لا أخالفك في شئ ولا اترك أمرك فيما أمرتني به ، وفي عدم هذا الوجدان من المبالغة ما ليس في الوعد بنفس الصبر وترك العصيان .
والمتأمل في هذه الآية يجد أنها احتوت على الكثير من الآداب :
منها الا يكون معترضا على أفعال الشيخ وأقواله وأحواله وجميع حركاته وسكناته معتقدا له في جميع حالاته وان شاهد منه معاملة غير مرضية بنظر عقله وشرعه فلا ينكره بها ولا يسئ الظن فيه بل يحسن فيه الظن ويعتقد انه مصيب في معاملاته مجتهدا في أرائه وإنما الخطاء في قصور نظري وسخافة عقلي وقلة علمي .
وأما المستفاد من قوله تعالى ( قال فان اتبعتني فلا تسألني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا )
قال الخضر عليه السلام إن صحبتني لأخذ العلم وهو إذن له في الأتباع على ما مر ذكره من الصبر والطاعة ( فلا تسألني عن شئ ) تشاهده من أفعالي وتنكره مني في نفسك ولا تفاتحني بالسؤال عن حكمته فضلا عن المناقشة والاعتراض ( حتى أحدث لك منه ذكرا ) أي : حتى أتبدى ببيانه لك وفي ذلك إيذان بان كل ما صدر عنه فله حكمة وغاية حميدة وهذا من آداب المتعلم مع العالم والتابع مع المتبوع .
وفي الآية السابقة الكثير من العبر والمواعظ والآداب منها :
--- ان يسد المريد على نفسه باب السؤال فلا يسال الشيخ عن شئ حتى يحدث له منه ذكرا أما بالمقال وإما بالحال
حكاية :
يروى إن لقمان عليه السلام دخل على داوود عليه السلام وهو يسرد دروعا ولم يكن لقمان عليه السلام رأى ذلك من قبل فتعجب منه وأراد أن يسأله عن ذلك فمنعته الحكمة فامسك نفسه ولم يسأله فلما فرغ قام داوود عليه السلام ولبسها ثم قال نعم الدروع للحرب وقبل ذلك كان لقمان عليه السلام يتردد عليه مدة سنة كاملة وهو يريد أن يسال ذلك فلم يسال .
قال الحكماء :
اذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب
وعن بعض الأكابر : الصمت على قسمين :
صمت باللسان عن الحديث بغير الله مع غير الله جملة ، وصمت بالقلب عن خاطر كوني البتة ، فمن صمت لسانه ولم يصمت قلبه خف وزره ، ومن صمت قلبه ولم يصمت لسانه فهو ناطق بالحكمة ، ومن صمت قلبه ولسانه ظهر له سره وتجلى له ربه ، ومن لم يصمت لسانه وقلبه كان مسخرة للشيطان ، فعلى العاقل ان يجتهد حتى يسلم قلبه من الانقباض ولسانه من الاعتراض وينسى ما سوى الله سبحانه وتعالى ولا تلعب به الأفكار ويصبر عند مظان العبر ويستسلم لأمر الله الملك الغفار فان لله في كل شئ حكمة وفي كل تلف عوضا .
نسال الله أن يجعلنا من أهل معرفته ومن المصاحبين لأهله ومن المسلمين لأمره .
والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي ألامي وعلى اله وصحبه وسلم , والله ورسوله اعلم
المصادر والمراجع :
--- الفتوحات المكية
--- إحياء علوم الدين
--- المنح القدوسية للشيخ احمد العلاوي
--- حقائق عن التصوف
--- ايقاظ الهمم
--- بعض الكتب والمنشورات المتفرقة