أما آثار الإسلام في المدينتين المقدّستين فلم يبق منها الآن حسب المعماريين الحجازيين سوى 5 بالمئة، فقد أزالت الجرافات الوهابية السعودية الآثار الإسلامية، وأصبحت هناك مهمة أخرى قديمة تتجدد بمرور الأيام، وهي هدم القبة النبوية وإزالة القبر الشريف من المسجد النبوي.
وآخر ما صدر عن المتزمتين في هذا الشأن، قد بسطه الكاتب عبد الله الشريف في مقالة له بعنوان (المسجد النبوي ووهم الوضع الخطأ!) والذي نشرته صحيفة (المدينة) في 25 أغسطس الماضي. يعقد الشريف في مقالته مناظرة مع أولئك الذين مازالوا مسكونين بوهم عقدي. ويقول:
حينما توجَّه الأسئلة لمن يُظَن أنه أهل للفتوى، وهي تحمل في طياتها إما الإجابة المباشرة على السؤال، وغاية الطرح أخذ الموافقة عليه ممن يظن السائل أن إجابته أدعى للقبول، أو تشتمل على موقف هو في حد ذاته فتوى، يوحي به السائل لما يريد من المفتي له أن يجيبه به، فيتهم تيارًا أو جماعة بما ينفر عنها وعنه مما يدخل في نطاق المخالفات الشرعية، ليسمع ممن وُجِّه له السؤال قدحًا فيها وفيه، فالواجب على من وُجِّه إليه السؤال ألا يبادر بإجابة تحقيق رغبة السائل، وإنما عليه أن يرشده إلى أدب المستفتي الذي يسأل عنه ما يجهل أو ما يستشكل من مسائل العلم، ولا يجد عنده وضوحًا لها، فمثل من يطرح أسئلة كهذه لم يستفتِ في أمر يجهل الحكم فيه، ولديه إجابة جاهزة له.
فهذا اللون من الأسئلة في ما أظن إنما تفرزه ثقافة يراد لها أن تسود، عندها لكل سؤال جواب حاضر، مهما كانت القضية المعروضة شائكة ومعقدة، ومن هذا اللون سؤال استمعت إليه وأصغيت إلى إجابته في رحاب المسجد النبوي الشريف، حيث توجهت إلى مكان من المسجد قصي في التوسعة الأخيرة قريبًا من باب مكة لأداء صلاة العشاء، فتناهى إلى سمعي عبر مكبرات الصوت صوت شيخ يلقي درسًا، فلما انتهى من درسه قرب أذان العشاء بدأ في الإجابة على أسئلة رواد حلقته مستمرًا فيها حتى بعد رُفع أذان العشاء، وقد تكرر ذلك أيامًا متعددة، بحيث يشوش على المصلين والذاكرين إنتظارًا لصلاة العشاء، خاصة أنه يأتيهم عبر مكبرات الصوت، فهم مرغمون على الإستماع إلى ما يلقي الشيخ على تلاميذه، والذين لا يزيد عددهم على عدد أصابع اليدين إلا قليلاً.
المهم أني استمعت معهم مرغمًا إلى العديد من الأسئلة التي لها ذات الصيغة التي تحدثت عنها آنفًا، والإجابات المؤيدة لها، وكان أعظمها جرأة ما طرحه أحدهم كسؤال على الشيخ مستفتيًا عن ما نعته بالخطأ الجسيم الذي وقع قبل نهاية القرن الأول الهجري بإدخال قبر الرسول الكريم سيدنا محمد بن عبدالله إلى المسجد.
وتساءل: ألم يحن الوقت لتصحيح هذا الخطأ؟ وهو سؤال كما ترى اشتمل على جواب اقتنع به السائل وهو أن إدخال القبر إلى المسجد خطأ، وأن الخطأ يجب أن يزال، وإنما وجَّه السؤال ليحظى بما يؤيد موقفه المسبق من المسألة، ولكن من وُجِّه إليه السؤال لم يعترض على صوغه بهذه الصورة، وإنما وافق فوراً على مضمونه معتبراً أن إدخال حجرات أزواج النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ خطأ، وأن وجود القبر الذي هو في إحداها وهي حجرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، بدعة إجترحها الأولون، وزعم أن من توافر آنذاك في المدينة من فقهاء التابعين إنما سكتوا دفعًا للفتنة، وذكر معلومة لم أسمع بها من قبل أن بعضهم قد قُتل لاعتراضه على ذلك، بل وطالب ولاة أمر هذه البلاد بأن يصححوا وضعاً اعتبره خطأً فيخرجوا القبر من المسجد، ودعا لهم أن يوفقوا إلى ذلك، وهكذا أسئلة والإجابة عليها بهذه الصورة أمر غريب يُسمح بطرحه في أحد الحرمين الشريفين؟ وهو يمتلئ بضيوف ووفود من جل أقطار العالم جاءوا للعمرة والزيارة ويسمعون ذلك عبر مكبرات الصوت فيظنون أن هناك توجيهًا رسمياً وشعبياً في هذا الوطن لتغيير وضع الحرم النبوي الشريف، الذي ظل عليه ما يقارب ثلاثة عشر قرنًا ونصف القرن، خاصة وأن الشيخ المتحدث زاد حديثًا عن ما أسماه بدعة القبة الخضراء، ونادى بتصحيح كل هذه الأخطاء المزعومة.
ونحن نعلم يقينًا أن بيننا من يعتنق مثل هذه الأفكار ولكننا نجزم أنهم أقلية، وهذه الأفكار إذا طرحت علناً في الحرمين الشريفين تناقلها زوارهما وبلغت الآفاق، وتكرار طرحها باستمرار أزعم أن صداه غير مرغوب فيه، ولا أحد في هذا الوطن يسعى إليه، فهلا كف هؤلاء عن ترديد مثل هذه الأقوال التي ضررها ـ ولاشك ـ على بلادنا عظيم، ونصيحتنا لهم أن يتداركوا أخطاءهم حتى لا يثيروا فتنة، فلعلهم يقبلون النصيحة، فقضايا الأمة التي يحتاج العلماء أن يتحدثوا فيها لا حصر لها مما له نفع يعود على المسلمين.. فهلا شغلوا أنفسهم بها؟ ذاك ما نرجوه والله ولي التوفيق.
ما لم تسمح به مساحة التعبير في الصحيفة، وما انطوت عليه عبارات الشريف في مقالته وهو يستعرض ما جاء على لسان السائل والمجيب في موضوع القبة النبوية الشريفة وقبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، هو أن الهدم تحوّل الى ثقافة لدى الأقلية الوهابية، ومن الغريب أن سيرة السلف الصالح لم يتم اعتمادها في هذا المقام، بالرغم من أن وجود القبر داخل المسجد كان منذ القرن الهجري الأول، فهل الموقف الوهابي يبطن تخطيئاً وتأثيماً لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم!
منقول