النووي:
قال ألإمام شيخ الإسلام محيي الدين أبو زكريا يحيى النووي قوله: (وكل بِدعة ضلالة) هذا عام مخصوص والمراد غالب البدع، قال أهل اللغة: هي كل شيء عمل على غير مثال سابق.
قال العلماء: البدعة خمسة أقسام: واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة.
فمن الواجبة نظم أدلة المتكلمين للرد على المَلاحِدة والمبتدعين وشبه ذلك، ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك، ومن المباح التبسيط في ألوان الأطعمة وغير ذلك، والحرام والمكروه ظاهران.
وقد أوضحت المسألة بأدلتها المبسوطة في "تهذيب الأسماء واللغات" فإذا عرف ما ذكرته علم أن الحديث من العام المخصوص وكذا ما أشبه من الأحاديث الواردة، ويؤيد ما قلناه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في التراويح: نعمت البدعة، ولا يمنع من كون الحديث عامًا مخصوصًا قوله: (كُل بدعة) مؤكدًا بكلّ بل يدخله التخصيص مع ذلك كقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25].
ابن تيميه:
قال الشيخ ابن تيميه معلقًا على قول سيدنا عمر بن الخطاب: نعمت البدعة هذه، ثم نقول: أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة مع حسنها، وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية، وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداءً من غير مثال سابق، وأما البدعة الشرعية فكل ما لم يدل عليه دليل شرعي.
فإذا كان نص رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دل على استحباب فعل أو إيجابه بعد موته، أو دل عليه مطلقًا ولم يعمل به إلا بعد موته، ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبو بكر رضي الله عنه، فإذا عمل أحد ذلك العمل بعد موته صح أن يسمى بدعة في اللغة، لأنه عمل مبتدأ، كما أن نفس الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يسمى بدعة ويسمى محدثًا في اللغة، كما قالت رسل قريش للنجاشي عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين إلى الحبشة: إن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم ولم يدخلوا في دين الملك وجاؤوا بدين محدث لا يعرف.
ثم ذلك العمل الذي يدل عليه الكتاب والسنة ليس بدعة في الشريعة، إن سمي بدعة في اللغة، فلفظ (البدعة) في اللغة أعم من لفظ (البدعة) في الشريعة.
وقد علم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة) لم يرد به كل عمل مبتدأ في دين الإسلام، بل كل دين جاءت به الرسل فهو عمل مبتدأ، وإنما أراد ما ابتدئ من الأعمال التي لم يشرعها هو صلى الله عليه وسلم.
ابن حجر:
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": والبدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة، والتحقيق أنها إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة، وإلا فهي من قسم المباح، وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة[3].
الصنعاني:
قال الشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني في "سبل السلام" في شرح قوله: (كل بدعة ضلالة): البدعة لغة: ما عمل على غير مثال سابق، والمراد بها هنا ما عمل من دون أن يسبق له شرعية من كتاب ولا سنة. وقد قسم العلماء البدعة على خمسة أقسام: واجبة كحفظ العلوم بالتدوين والرد على الملاحدة بإقامة الأدلة، ومندوبة كبناء المدارس، ومباحة كالتوسعة في ألوان الأطعمة وفاخر الثياب، ومحرمة ومكروهة وهما ظاهران.
فقوله: (كل بدعة ضلالة) عام مخصوص.
اللكنوي:
وقد لخص الإمام أبو الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي كلام أئمة السلف وموقفهم من هذا الحديث في قولين، فقال: اختلف العلماء في هذا الباب على قولين:
الأول: أن حديث (كل بدعة ضلالة) عام مخصوص البعض، والمراد به البدعة السيئة، وقسموا البدعة إلى واجبة ومندوبة ومكروهة ومحرمة ومباحة، وهو الذي رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" عن الإمام الشافعي، أنه قال: المحدثات في الأمور ضربان:
أحدهما: ما أحدث مما خالف كتابًا أو سنة، أو أثرًا أو إجماعًا، فهذه البدعة في الضلالة.
وثانيهما: ما أحدث من الخير، وهذه غير مذمومة، وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان: نعمت البدعة هذه، ويعني أنها محدثة لم تكن.
وبه صرح الشيخ عز الدين بن عبد السلام في كتاب"القواعد" والنووي في "تهذيب الأسماء واللغات" وعلي القاري في "شرح المشكاة" وابن ملك في "مبارق الأزهار شرح مشارق الأنوار" والسيوطي في رسالته "حسن المقصد في عمل المولد" ورسالته" المصابيح في صلاة التراويح" والقسطلاني في "إرشاد الساري شرح صحيح البخاري" والزرقاني في "شرح الموطأ" والحافظ أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث" والحلبي في "إنسان العيون في سيرة النبي المأمون" وغيرهم، فعلى هذا القول البدعة التي هي ضد السنة هي البدعة المكروهة والمحرمة، وأما ما سواهما من البدعات فلا تكون سيئة.
والقول الثاني: وهو الأصح بالنظر الدقيق أن حديث (كل بدعة ضلالة) باق على عمومه، وأما المراد به البدعة الشرعية، وهي ما لم يوجد في القرون المشهود لهم بالخير ولم يوجد له أصل من الأصول الشرعية، ومن المعلوم أن كل ما كان على هذه الصفة فهو ضلالة قطعًا، وإلى هذا القول مال السيد السند في "شرح المشكاة" والحافظ ابن حجر في "هدي الساري مقدمة فتح الباري" وفي "فتح الباري" وابن حجر الهيتمي الملكي في "الفتح المبين بشرح الأربعين" وغيرهم.
هذا وقد نقل العلماء والمحدثون والحفاظ في كتبهم هذا الفهم للحديث الشريف، واعتبروه حجة مرضية وطريقة شرعية معتمدة يرضاها كل ذي عقل سليم وفهم قويم.
ومن أولئك، الشيخ أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم أبادي الذي نقل كلام ابن رجب في كتابه "عون المعبود شرح سنن أبي داود".
ومنهم الشيخ أبو العلى محمد بعد الرحمن المباركفوري الذي نقل كلام ابن رجب في كتابه "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي".
ومنهم، الشيخ خليل أحمد السهارنفوري الذي نقل كلام الخطابي في كتابه"بذل المجهود في حل أبي داود".
الشوكاني:
أما الإمام محمد بن علي الشوكاني فقد نقل في كتابه "نيل الأوطار" في شرح حديث صلاة التراويح عن قول سيدنا عمر: نعمت البدعة هذه...كلام ابن حجر في تقسيم البدعة ولم يعترضه بشيء.
ابن العربي:
قال الإمام الحافظ القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي المالكي: اعلموا – علمكم الله - أن المحدث على قسمين، محدث ليس له أصل إلا الشهوة والعمل بمقتضى الإرادة، فهذا باطل قطعًا، ومحدث بحمل النظير فهذه سنة الخلفاء والأئمة الفضلاء، وليس المحدث والبدعة مذمومًا للفظ محدث وبدعة ولا لمعناها، فقد قال الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2].
وقال عمر: نعمت البدعة هذه، وإنما يذم من البدعة ما خالف السنة، ويذم من المحدثات ما دعا إلى ضلالة.
الباجي:
قال الإمام القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي في شرح حديث التراويح عن قول سيدنا عمر: نعمت البدعة : وهذا القول تصريح من عمر رضي الله عنه بأنه أول من جمع الناس على قيام رمضان على إمام واحد بقصد الصلاة بهم، ورتب ذلك في المساجد ترتيبًا مستقرًا، لأن البدعة هو ما ابتدأ فعله المبتدع دون أن يتقدمه إليه غيره، فابتدعه عمر وتابعه عليه الصحابة والناس إلى هلمّ جرّا.
وهذا أبين في صحة القول بالرأي والاجتهاد، وإنما وصفها بنعمت البدعة لما فيها من وجوه المصالح التي ذكرناها.
الزرقاني:
قال العلامة الفقيه الشيخ محمد بن عبد الباقي الزرقاني في "شرح الموطأ" عند قول سيدنا عمر: (نعمت البدعة هذه): وصفها بنعمت لأن أصل اللغة سنة وإنما البدعة الممنوعة خلاف السنة، وقال ابن عمر في صلاة الضحى: نعمت البدعة، وقال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27].
وأما ابتداع الأشياء من عمل الدنيا فمباح، قاله ابن عبد البر، وقال الباجي: (نعمت) بالتاء على مذهب البصريين، لأن نِعْمَ فعلٌ لا يتصل به إلا التاء، وفي نسخ (نعمه) بالهاء وذلك على أصول الكوفيين، وهذا تصريح منه بأنه أول من جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد، لأن البدعة ما ابتدأ بفعلها المبتدع ولم يتقدمه غيره، فابتدعه عمر وتابعه الصحابة والناس إلى هلمّ جرّا، وهذا يبين صحة القول بالرأي والاجتهاد انتهى، فسماها بدعة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسن الاجتماع لها ولا كانت في زمان الصديق، وهي لغة: ما أحدث على غير مثال سبق، وتطلق شرعًا على مقابل السنة، وهي ما لم تكن في عهده صلى الله عليه وسلم، ثم تنقسم إلى الأحكام الخمسة.
وحديث: (كل بدعة ضلالة) عام مخصوص، وقد رغب فيها عمر نعمت البدعة، وهي كلمة تجمع المحاسن كلها كما أن بئس تجمع المساوئ كلها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا بالذين من بعدي، أبي بكر وعمر) وإذا أجمع الصحابة على ذلك مع عمر زال اسم البدعة.