بقلم: محيي الدين حسين يوسف الإسنوي
الحمد لله، و الصلاة و السلام على نبيّه سيدنا محمد المصطفى، وعلى آله و صحبه و من والاه .
وبعــــد:
هذه ترجمة موجزة وتعريف بفضيلة شيخنا الإمام العارف بالله: سيدي محمد زكي إبراهيم رائد العشيرة المحمدية، وشيخ الطريقة المحمدية الشاذلية، رحمه الله تعالى رحمة واسعة . أكتبها بما لزمته وأخذت عنه وخبرت علمه وفضله عن قرب ؛ وما أنا ذاكره هنا ما هو إلا قليل من كثير، وغيض من فيض، من غير مبالغة ولا تهويل.
وقد نشرت هذه الترجمة بمجلة الأزهر الغراء عقب وفاة شيخنا رحمه الله مباشرة ثم نشرت عدة مرات بمجلة المسلم، وقد زدت فيها هنا بعض الزيادات الضرورية النافعة، والله تعالى من وراء القصد، وعلى الله قصد السبيل .
وقد شرعت في كتابة ترجمة موسعة لشيخنا رحمه الله تعالى، تتناول تفصيل جوانب من حياته وفكره ومعارفه، أسأل الله التوفيق لإتمامها، عسى أن يؤدي ذلك شيئاً من حقه الواجب علينا رحمه الله تعالى .
وإن العبرة من الترجمة الاقتداء والاستفادة، فلعل قارئ هذه الترجمة أن يصيب من علو الهمة ونفوذ العزيمة ما ينفع به نفسه والناس، ولعله يجد فيها فكرة أو هدفاً فيشمر عن ساعد الجد في تنفيذها، أو الوصول إلى هدفه .
-
مولده ونشأته:
هو شيخنا وأستاذنا الإمام الفقيه المحدث الشاعر، بقية السلف الصالح: محمد زكي إبراهيم، رائد العشيرة المحمدية، اسمه: محمد، ولقبه: زكي الدين، وكنيته: أبو البركات، شريف حسيني أباً وأماً .
ولد رحمه الله في القاهرة بمنزل والده بحي بولاق أبو العلا، وتاريخ مولده حسب ما هو مدون في أوراقه الرسمية 22/8/1916م، فيكون قد قضـى من العمر في هذه الحياة الدنيا 82 عاماً، إلا أن عندي من الأسباب العلمية والتاريخية ما يجعلني أؤكد أن الشيخ رحمه الله قد ولد قبل هذا التاريخ بنحو عشر سنوات تقريباً، ثم تأكد لي ذلك تماماً فرأيت بخط شيخنا رحمه الله أن مولده كان في 22/8/1906م، فيكون عمره الفعلي (92) عاما، قضاها في جهاده ودعوته، في علم وعمل .
ووالد الشيخ هو العالم الأزهري الشيخ إبراهيم الخليل بن علي الشاذلي، صاحب كتاب (المرجع: معالم المشروع والممنوع من ممارسات التصوف المعاصر)، وله سلسلة مقالات نشرت في جريدة الإخوان سنة 1932 م، كما أن له بعض المقطوعات من الشعر الروحي الرائق، وقد جمعتها مع نبذة عن حياته وطبعت في رسالة مطبوعة .
وجَدّ الشيخ لأمه هو الشيخ محمود أبو عليان، أحد شيوخ الطريق العلماء المجددين، تتلمذ على يد الشيخين الجليلين الشيخ حسن العدوي الحمزاوي، والشيخ عليش شيخ مالكية عصره، وقد أثنى عليه ومدحه وترجم له الدكتور عبد المنعم خفاجي في كتابه عن التصوف .
تـخــرجـه في الأزهــر:
نشأ شيخنا في هذا الجو العلمي الصوفي الأزهري مما كان له أكبر الأثر في تكوينه العلمي والروحي، فتلقى العلم ابتداءً على يد والده، وحفظ القرآن على يد الشيخ جاد الله عطية في مسجد السلطان أبي العلاء، والشيخ أحمد الشريف بمسجد سيدي معروف، وكان حينئذ ما بين التاسعة والعاشرة من عمره .
ثم التحق بمدرسة ( درب النشارين الابتدائية)، وكان الابتدائي حينئذ يوازي المرحلة الإعدادية الآن، ثم انتقل منها إلى مدرسة ( نهضة بولاق الكبرى) وكانت من أشهر المدارس في ذلك الوقت .
ثم التحق بالأزهر الشريف فأخذ فيه المرحلة الثانوية، ثم مرحلة العالمية القديمة، وليس بين يدي الآن ما أعرف منه تاريخ تخرجه في الأزهر على وجه التحديد، وإن كانت الدلائل تحصر ذلك في الفترة ما بين 1926 إلى 1930 م .
وقد ذكر لي الشيخ رحمه الله كيف أدى امتحان العالمية ؟! وكان ذلك في مجلس خاص معه ( وهو مسجل عندي بصوته )، فكان مما قاله رحمه الله:
" كنا يوم الامتحان نصلي الفجر في مسجد الإمام الحسين - الطالب واللجنة -، ونحضر درس الشيخ السمالوطي بعد الفجر، وكان يحضره العلماء باعتبارهم تلاميذ للشيخ، ثم ننتقل لصلاة الضحى في الأزهر الشريف، وتذهب اللجان إلى الرواق العباسي في عدة غرف، في كل غرفة لجنة، ويدخل الطالب ومعه أوراقه وكتبه التي تم تعيين الامتحان فيها، وكان رئيس اللجان الشيخ عبد المجيد اللبان رحمه الله، وظللت أمام اللجنة حتَّى أذان العصر، وعند ذلك ختم الامتحان بالصلاة الشافعية (اللهُمَّ صلّ أفضل صلاة على أسعد مخلوقاتك سيدنا محمد وعلى آله .. إلخ) وكان الختم بهذه الصيغة إيذاناً بنجاح الطالب وحصوله على العالمية الأزهرية ...
وأذكر أنهم حددوا لي في علم البيان (تحقيق الخلاف بين السعد والسيد في الاستعارة المكنية) السعد التفتازاني والسيد الجرجاني .. وفي النحو باب المبتدأ والخبر، وفي التفسير آية: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) الآية " .
هذا ملخص ما ذكره لي شيخنا رحمه الله تعالى عن امتحانه العالمية الأزهرية .
رحلة مع القرآن الكريم:
بدأت رحلة شيخنا الإمام محمد زكي إبراهيم رائد العشيرة المحمدية رحمه الله مع القرآن الكريم منذ صغره، فبدأ بحفظ القرآن الكريم مبكراً – كما ذكرت آنفاً - على يد الشيخ جاد الله عطية بمسجد السلطان أبي العلاء حيث كانت تقيم أسرته، وأتم حفظه عن ظهر قلب على يد الشيخ أحمد الشريف بمسجد سيدي معروف، وكان حينئذ بين التاسعة والعاشرة من عمره .
وفي الأزهر الشريف اعتنى بكتاب الله تعالى وتفاسيره وكتب إعرابه ومعانيه، وقراءاته، وعلومه بأنواعه وقد ظهر أثر ذلك واضحاً في حياته (خطابة وتدريساً وتأليفاً وفتوى وإرشاداً) .
فقد كان مجلس درسه رحمه الله مليئاً بفرائد الفوائد القرآنية النادرة، قلما ذكر حادثة أو حكماً أو موعظة إلا ودليلها من كتاب الله تعالى في المقدمة، والكثير من دروسه هو شرح لآيات من كتاب الله تعالى، ولا أنس يوماً شرح في درسه سورة (الرحمن) آية آية، فبدأ بمعنى اسمه تعالى (الرحمن) وأنه جامع لصفات الجمال والجلال، ثم ذكر أسماء سورة الرحمن، ومنها أنها تسمى عروس القرآن، ثم عرج على قصة سيدنا عبد الله بن مسعود وجهره بآيات من سورة الرحمن على أهل الشرك وعبادة الأوثان، ثم انطلق في معاني آيات سورة الرحمن، وروى حديث الجن كلما سمعوا قول الحق (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فكانوا أحسن مردوداً من الإنس وقالوا: (لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد) .. إلى آخر ما في هذه السورة من معاني عظيمة جليلة .
وكنت تجد بين ثنايا دروس فضيلة الإمام الرائد من الفوائد العظيمة والمعاني الشاردة الجليلة، فشرح يوماً معنى قول الحق: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة) وأفاض في تاريخ البيت الحرام، ومعنى بكة ومكة ..إلخ .
ويوماً كان يشرح قول الحق تعالى: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم) فكان مما قال: إن من رضي الله تعالى عنهم يلهمهم الإجابة فيقول أحدهم: غرني كرمك يا رب، ألا ترى أنه لم يقل: ما غرك بربك الجبار أو القهار أو المنتقم .
وقد تميزت الاحتفالات الدينية التي كان يقيمها رحمه الله بأصوات الشيوخ الأجلاء من الحفاظ المتقنين، أصحاب الأداء المميز، وهنا أذكر أول لقاء للقاريء الطبيب أحمد نعينع بالشيخ رحمه الله إذ بعد أن قرأ انطلق الشيخ يبين للحاضرين خفايا بعض أحكام التلاوة عند حفص، ويشرح بعض وجوه القراءات ما يبهر العقول .
وكان رحمه الله تعالى يحثُّ على المحافظة على الورد القرآني اليومي، وتفصيله:
1 - قراءة ما تيسر من القرآن يومياً، ولو آيات قليلة، حتى يختم القرآن، ثم يبدأ فيه من جديد، وهذا شأن الحال المرتحل كما ورد في الحديث الشريف .
2 - قـراءة سـورة (الواقـــعة) بـعد صلاة الفجــر، و (الرحــمن) بــعد العـصر، و (يـس) بـعد المغـرب، و (تبارك الملك) بعد العشاء، و (الدخان) ليلة الجمعة، و (الكهف) يوم الجمعة، وقد فصل دليل قراءة هذه السور وفضلها في كتابه (أصول الوصول) وفي غيره من كتبه رضي الله عنه .
3 - قراءة السور والآيات ذات الخصائص، والفضل العظيم، والأجر الكبير، مما ورد فيها أنها تعدل ثلث القرآن أو ربعه، كسورة الإخلاص، والكافرون، والزلزلة، وآية الكرسي، وخواتيم البقرة، ونحو ذلك .
فكلُّ هذا من السنن المؤكدة، والمستحبات، والفضائل، ممَّا هو ضروري للسالك إلى الله تعالى، المترقي في درجات الكمال، بعد محافظته على الفرائض والواجبات، وأدائها على أكمل وجه في أوقاتها، إذ لا بـد للسالك إلى الله من معرفة مراتب الأعمال، وأن يكون فقيهاً بالأولويات، عليماً بالضروريات، فلا يهتم بالفروع ويترك الأصول، ويقضي وقته في النوافل مع إهماله الواجبات، فيكون كمن يزين جداراً هشاً لا أساس له، يوشك أن ينهار، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وفضلاً عن اهتمام شيخنا رحمه الله بالقرآن في مجالس علمه، فقد كان رحمه الله كثير التلاوة له، يحث على مجالس تلاوته ومدارسته، فعمرت مساجده بالمجالس القرآنية تلاوة وتحفيظاً وتعليم أحكام، واهتم بالكتاتيب، وحث عليها .
وقد كتب عدة مؤلفات قيمة حول كتاب الله عزَّ وجل، منها:1 - الإسكات بركات القرآن على الأحياء والأموات، وهو مطبوع، حول الأوراد القرآنية، ومعاني الاختيار والتفضيل بين السور والآيات وهو بحث نادر، وخصائص القرآن، وفضائل بعض سوره، وانتفاع الميت به، والتداوي والرقية والعلاج بالقرآن .
2) حول معالم القرآن، وهو مطبوع، عبارة عن معلومات وحقائق لا يستغني عنها عالم ولا معلِّم ولا متعلم، وثقافة قرآنية أساسية، بمنهج علمي، مع ذكر الدليل، على طريقة تجمع بين الفقه والحديث .
3) معارج البهاء الأقدس لمحات من فقه المعرفة ودرس في التوحيد من سورة الإخلاص، وقد طبع مؤخراً، حول سورة الإخلاص وفضلها وما حوته من معاني التوحيد، جمعاً بين العقيدة والتفسير والتصوف، وعلى صغر حجم هذا الكتاب، فإن مادته العلمية متخصصة، وعبارته محققة موجزة .
4) تفسير آيات مختارة من كتاب الله تعالى، كآيات البر من سورة البقرة، وأوائل سورة الإنسان، وغيرها، وهو ما زال مخطوطاً، أسأل الله تعالى أن يوفق لطباعته .
5) لحظات التجلي، تفسير مختارات من سور القرآن،منها التوبة والحجرات، وقد فقد في حياة شيخنا رحمه الله عند نقل مكتبته كما أخبرني .
6) بحوث في لغة القرآن: وهي مجموعة من البحوث في مفردات القرآن وكلماته، وما فيها من إعجاز لغوي وتركيب فريد، وقد تطرق فيها لشيء من علوم القرآن الكريم، نشر بعض هذه البحوث بمجلة منبر الإسلام التي يصدرها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وبعضها أذيع في برنامج ( لغة القرآن ) .
هذا، عدا الدراسات والبحوث والمقالات القرآنية المتناثرة بالمجلات الإسلامية، وفي مجلته (المسلم)، والتي أخص بالذكر منها بحثاً نادراً عن التفسير الإشاري وتفاسير السادة الصوفية، وقد اتخذته عمدة في رسالتي (التفسير الإشاري للقرآن، دراسة علمية تأصيلية )، وله بحث قيم في التداوي بالقرآن .
ومما ينبغي أن يذكر - في مجال ذكر الفضل لأهله - أنَّ شيخنا رحمه الله تعالى كان من أول من نادوا بتسجيل القرآن الكريم برواية الدوري وبقية القراءات، وهذا مسجل في مجلة المسلم في وقته . وقد كان الأستاذ لبيب السعيد وكيل عام وزارة الأوقاف وأمين العشيرة المحمدية الثقافي وقتها هو أول من سجل تلاوة القرآن على أسطوانات .
شيخنا ورواية الحديث الشريف:
بالإضافة إلى ما تلقاه من الفقه والتفسير والحديث وسائر العلوم الشرعية بالأزهر الشريف اهتمَّ شيخنا الإمام محمد زكي إبراهيم اهتماماً خاصاً بتلقي علم الحديث (رواية ودراية ) على يد الشيوخ الرواة المحدثين ؛ في وقت قلت فيه رواية الحديث، وأصبح رواة الحديث والمهتمين بعلومه في مصر والعالم الإسلامي قلة نادرة تعد على الأصابع .
ونجد اهتمام شيخنا رحمه الله بالحديث رواية ودراية واضح المعالم في مؤلفاته، وقد نقل عنه الشيخ الحسيني هاشم والدكتور أحمد عمر هاشم في كتابهما (المحدثون في مصر) أن أكثر مؤلفاته على طريقة أهل الحديث، وانظر لذلك مثلاً رسالته في ليلة النصف من شعبان، ورسالته في الحديث الضعيف .
وقد أجازني رحمه الله بخط يده بمروياته في الحديث والفقه والأصول واللغة ومما جاء في
يتبع