بقلم السيد: مختار علي محمد
شيخ الطريقة الدسوقية المحمدية
التوبة لا تحتاج إلي شروط صارمة.. يكفي الإقلاع عن الذنب في الحال.. والندم علي ما مضي.. والعزم علي عدم العودة.. ورد المظالم إلي أصحابها كلما أمكن ذلك.. ليس كل من سعي إلي التوبة نالها.. ولكن من سعت إليه التوبة أو من اصطفي لها أو من تاب الله عليه فذلك هو القبول.
كأنك تستحم بعد أن غطاك الغبار.. كأنك تنعم بتكييف هواء بعد لسع النار.. كأنك تجد صديقا يبدد الوحشية بعد طول انتظار.. كأنك تعود إلي الحياة بعد أن وجدت نفسك علي حافة انتحار.. كأنك في مواجهة الخطايا تعرف معني الانتصار.. إنها التوبة.. كلمة السحر التي يعبر بها الإنسان جسر الذنوب ليعود إلي الحق ثوبا ناصعا وقلبا شفافا وضميرا ثاقبا.. فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
والتوبة لا تحتاج إلي شروط صارمة.. يكفي الإقلاع عن الذنب في الحال.. والندم علي ما مضي.. والعزم علي عدم العودة.. ورد المظالم إلي أصحابها كلما أمكن ذلك.. لكن.. هناك من يضيف شرطا آخر لا حق له في إضافته هو قبول الله للتوبة.. هذا شرط مستنكر.. فلا شروط علي الله سواء في التوبة أو في غيرها.. هذه جرأة لا يقدر عليها أحد.
ما يعنينا من التوبة.. تغيير رفقاء المعصية برفقاء الطاعة حتي يجد المذنب معينا ومذكرا له إذا غفل.. يجب أن يجد من يتوب علي يديه.. أستاذا.. شيخا.. قدوة.. شخصا ما يلجأ إليه كلما غمض عليه أمر.. ويجب ألا يطمئن لقبول توبته.. فهذا يؤدي إلي عدم الاستغفار.. يجب أن يكون المؤمن علي يقين من ذنبه.. وعلي شك من قبول توبته.. فلو شك في قبول توبته فإنه يستغفر من جديد.. والشك في قبول التوبة ليس شكا في رحمة الله وإنما هو تعلق بالعلة كي يكون قريبا من الله فيداوم علي الاستغفار.. بل عليه أن يداوم علي الاستغفار ولو لم يرتكب ذنبا.
يقول - صلى الله عليه وسلم - "لو لم تذنبوا وتستغفروا لذهب الله بكم وأتي بقوم غيركم فيذنبون فيستغفرون فيغفر لهم".. ومن ظاهر القول الشريف نتساءل: هل يريدنا الله أن نرتكب معصية فنستغفر فإن لم نفعل ذهب بنا وأتي بغيرنا يذنبون ويستغفرون؟.. أبدا.. العكس صحيح.. يريدنا الله ألا نذنب ورغم ذلك نستغفر.. فالحديث يقول: "لو" وهي أداة شرط.. "لم تذنبوا" وتعني نفي الذنب.. تعني الطاعة.. فلو أطعتم ولم تستغفروا لذهب الله بكم.. والمقصود هو عدم ارتكاب الذنب لا يعني عدم الاستغفار.. فالاستغفار ضرورة حتي دون ذنوب.
إن من الطبيعي أن نذنب ونستغفر ولكن غير الطبيعي ألا نذنب ورغم ذلك نستغفر.. إن الله يقبل توبة من أذنب ويفرح باستغفاره.. والمؤكد أنه يفرح أكثر بمن يستغفر دون أن يذنب.. ولو شبهنا ذلك ببنك.. فلابد أن البنك سيفرح بمدين جاء إليه ليسدد ما عليه من قروض.. لكنه سيفرح أكثر بعميل غير مدين جاء إليه ليودع مالا يدخره.
وقد كان سيد المستغفرين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستغفر الله في الليل والنهار 70 مرة ولم يكن له ذنب.. فالذين أطاعوا واستغفروا يحبهم الله.. والاستغفار مطلوب للمذنب ولغير المذنب والله يحب الذين يستغفرون للذين آمنوا رغم أنهم لم يذنبوا هم شخصيا.. إنهم صمام الأمان الذين يرحم الله بهم الأمة.. وباستغفارهم علي غير ذنب ارتكبوه للذين آمنوا تبقي الأمة.. فلو لم يوجد مثلهم لذهب الله بهذه الأمة وجاء بغيرها.
والتوبة الحقيقية غير التوبة الدارجة في تصوراتنا.. التوبة تكون من معصية.. ويرزق الله بها المؤمن.. يقول سبحانه وتعالي: "ثم تاب عليهم ليتوبوا".. ويقول سبحانه وتعالي: "وأرنا مناسكنا وتب علينا".. ويقول سبحانه وتعالي: "لقد تاب الله علي النبي".. وتاب عليه تعني هو الذي رزقه التوبة.
والتائبون نوعان: طالب ومطلوب.. طالب توبة. ومطلوب للتوبة.
1- طالب التوبة: هو الذي يتوب عن ذنب لكنه قد يعود إلي ارتكابه مرة أخري.
2- والمطلوب للتوبة: هو الذي دعاه الله للتوبة فلا يعود إلي المعصية.
طالب التوبة مجتهد في التوبة.. المطلوب للتوبة هو الموفق إليها.
إذا تاب الله علي عبد أنسي الحفظة "ملائكة التسجيل" ذنوبه حتي يلقي الله وليس عليه شاهد بذنب ووفي عنه حقوق الآخرين "المظالم التي قام بها" الله يتولي الوفاء بها.. ويتولي عنه القصاص لنفسه يعني لو له حق يأتي له الله به.. وفي هذا الوقت يصبح "عتيق الله في أرضه".. وساعة العتق ينادي جبريل - عليه السلام - في أهل الأرض والسماء: "إن فلانا هذا عتيق الله في أرضه من كان له عليه دين فليتقاضاه من الله ومن كان عليه له دين فليؤده إلي الله".
وسيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مثلا هو واحد ممن رزقهم الله التوبة.. لقد وصل غضبه من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلي حد أن قرر قتله.. وعندما مر ببيت أخته ليعرف منها سبب إيمانها سمعها تقرأ قوله تعالي: "طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقي".. فرق قلبه للإيمان.. وعلي العكس تماما عبدالله بن أُبي بن سلول.. رأس الفتنة.. وكان يظهر الطاعة لكنه يبطن البغضاء.
والإنسان لو عاد في توبته يكون كمن يستهزيء بالله - استغفر الله - يقول - سبحانه وتعالي لرسوله - صلى الله عليه وسلم - "إنا كفيناك المستهزئين".. ويقول سبحانه وتعالي: "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلي شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزيء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون".. فليس كل من سعي إلي التوبة نالها.. ولكن من سعت إليه التوبة أو من اصطفي لها أو من تاب الله عليه فذلك هو القبول.. وبالتالي لا يصح أن نضيف لشروط التوبة شرط أن يقبلها الله.. فلا شروط مع الله.
يقول بعضهم: إن عصيت الذي إن شاء عذبني.. لكنه بجميل الستر غطاني.. أعصاه يسترني أنساه يذكرني.. فكيف أنساك يا من لست تنساني.
في إحدي الغزوات تخلف بعض المسلمين عنها فاستدعاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليحاكمهم علي تخلفهم.. وكان - صلى الله عليه وسلم - يقبل كل عذر يقال له حتي لو كان صاحبه كاذبا إلا ثلاثة منهم علي رأسهم كعب من مالك.. هؤلاء أبوا أن يكذبوا علي رسول الله.. قالوا ندخل النار بأي سبب آخر غير الكذب علي رسول الله.. لكن.. المفاجأة أن الرسول عليه وآله الصلاة والسلام لم يعاقب سواهم.. وكان العقاب مقاطعتهم.. فلا بيع لهم ولا شراء منهم ولا تعامل معهم.. بل إن الثلاثة نفذوا العقاب فيما بينهم هم أيضا.. فعلوا ذلك حتي تاب الله عليهم.. حتي وفقوا إلي التوبة.. حتي نزلت توبتهم.. وقد وضع الله نبيه عليه وآله الصلاة والسلام معهم تكريما لهم وللتوبة.. لقد تاب الله على النبي وعلى الثلاثة الذين لم يكذبوا عليه.. ولم يقل إنهم تخلفوا عن القتال وإنما خلّفوا عنه.. وكأنهم تخلفوا بأمر من عند الله.. فلما بلغ النبأ كعب بن مالك ذهب إلي الرسول - صلي الله عليه وسلم - الذي قال له: "لقد تاب الله عليك يا كعب".. أي قبل توبتك.. فقال كعب: وسماني باسمي يا رسول الله؟.. قال - صلى الله عليه وسلم - "وسماك باسمك يا كعب".
أما الذين كذبوا علي رسول الله فقد قال - سبحانه وتعالي - عنهم: "ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين".. يكفيهم أنهم كذبوا علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل إنهم عندما كذبوا علي رسول الله صلى الله عيه وآله وسلم ووجدوا الرسول صلى الله عيه وآله وسلم يقبل كذبهم شكوا في رسالته واهتزت عقيدتهم فيه.. بدعوي أنه لم يكشف كذبهم.. ظنوا أنهم خدعوه.. يقول - سبحانه وتعالي - "يخدعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم".. ويقول سبحانه وتعالي: "وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله".. ويقول سبحانه وتعالي: "وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل".
لقد كان الأجدر بهم أن يعترفوا بذنبهم ويتوبوا.. فالله يبسط يده بالليل ليتوب مسيئو النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيئو الليل.. والتوبة تحمل في طياتها الشفاعة.. يقول سبحانه وتعالي: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم. وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون".. أما صحة قبول التوبة فنراها واضحة في قوله - سبحانه وتعالي - "ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما".
لكن.. ما الفرق بين التواب الرحيم والغفور الرحيم؟..
الغفور: السماح علي ذنب بعينه فقط.
التواب: السماح علي ذنب بعينه ثم العصمة من الوقوع في الذنوب مرة أخري.
وهو ما يعني أن التوبة تجب المغفرة.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
منقول من مجلة عقيدتي