ومن الناس من ينبعث من باطنه داعية الخلوة وتنجذب النفس إلى ذلك وهذا أتم وأكمل وأدل على كمال الاستعداد، وقد روي من حال رسول الله ما يدل على ذلك فيما حدثنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب إملاء قال: أخبرنا الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن أحمد المقري، قال: أخبرنا جعفر بن الحكاك المكي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الصنعاني، قال: أخبرنا أبو عبد الله البغوي، قال: أخبرنا إسحاق الديري قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر قال: أخبرني الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «أول ما بدىء به رسول الله من الوحي: الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: اقرأ، فقال رسول الله : مَا أَنَا بِقَارِىءٍ؟ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء؟ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء؟ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: {اقْرأ باسْمِ رَبِّكَ الَّذي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} حتى بلغ {مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
"وحدث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: «فَبَـيْنَمَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتاً مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيَ بَـيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَجَئِثْتُ مِنْهُ رُعْباً فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي؟ فَدَثَّرُونِي فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} إِلَى {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} .
وقد نقل أن رسول الله ذهب مراراً كي يردي نفسه من شواهق الجبال، فكلما وافى ذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبرائيل عليه السلام فقال: يا محمد إنك لرسول الله حقاً فيسكن لذلك جأشه؛ وإذا طالت عليه فترة الوحي عاد لمثل ذلك فيتبدى له جبريل فيقول له مثل ذلك، فهذه الأخبار المنبئة عن بدء أمر رسول الله هي الأصل في إيثار المشايخ الخلوة للمريدين والطالبـين؛ فإنهم إذا أخلصوا لله تعالى في خلواتهم يفتح الله عليهم ما يؤنسهم في خلوتهم تعويضاً من الله إياهم عما تركوا لأجله، ثم خلوة القوم مستمرة، وإنما الأربعون واستكمالها لها أثر ظاهر في ظهور مبادىء بشائر الحق سبحانه وتعالى وسنوح مواهبه السنية .
الباب السابع والعشرون في ذكر فتوح الأربعينية
وقد غلط في طريق الخلوة والأربعينية قوم وحرفوا الكلم عن مواضعه ودخل عليهم الشيطان وفتح عليهم باباً من الغرور ودخلوا الخلوة على غير أصل مستقيم من تأدية حق الخلوة بالإخلاص، وسمعوا أن المشايخ والصوفية كانت لهم خلوات وظهرت لهم وقائع وكوشفوا بغرائب وعجائب فدخلوا الخلوة لطلب ذلك، وهذا عين الاعتلال ومحض الضلال، وإنما القوم اختاروا الخلوة والوحدة لسلامة الدين وتفقد أحوال النفس وإخلاص العمل لله تعالى.
ونقل عن أبـي عمرو الأنماطي أنه قال: لن يصفو للعاقل فهم الأخير إلا بإحكامه ما يجب عليه من إصلاح الحال الأول، والمواطن التي ينبغي أن يعرف منها أمزداد هو أم منتقص؟ فعليه أن يطلب مواضع الخلوة لكي لا يعارضه شاغل فيفسد عليه ما يريده.
أنبأنا طاهر بن أبـي الفضل إجازة عن أبـي بكر بن خلف إجازة قال: أنبأنا أبو عبد الرحمن، قال: سمعت أبا تميم المغربـي يقول: من اختار الخلوة على الصحبة فينبغي أن يكون خالياً من جميع الأفكار إلا ذكر ربه عز وجل، وخالياً من جميع المرادات إلا مراد ربه، وخالياً من مطالبة النفس من جميع الأسباب فإن لم يكن بهذه الصفة فإن خلوته توقعه في فتنة أو بلية.
أخبرنا أبو زرعة إجازة قال: أخبرنا أبو بكر إجازة، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن قال: سمعت منصوراً يقول: سمع محمد بن حامد يقول: جاء رجل إلى زيارة أبـي بكر الوراق وقال له: أوصني، فقال: وجدت الدنيا والآخرة في الخلوة والقلة ووجدت شرهما في الكثرة والاختلاط.
فمن دخل الخلوة معتلاً في دخوله دخل عليه الشيطان وسوّل له أنواع الطغيان، وامتلأ من الغرور والمحال فظن أنه على حسن الحال، فقد دخلت الفتنة على قوم دخلوا الخلوة بغير شروطها وأقبلوا على ذكر من الأذكار واستجموا نفوسهم بالعزلة عن الخلوة، ومنعوا الشواغل من الحواس كفعل الرهابـين والبراهمة والفلاسفة، والوحدة في جمع الهم لها تأثير في صفاء الباطن مطلقاً،
فما كان من ذلك بحسن سياسة الشرع وصدق المتابعة لرسول الله أنتج تنوير القلب والزهد في الدنيا وحلاوة الذكر، والمعاملة لله بالإخلاص من الصلاة والتلاوة وغير ذلك،
وما كان من ذلك من غير سياسة الشرع ومتابعة رسول الله ينتج صفاء في النفس يستعان به على اكتساب علوم الرياضة مما يعتني به الفلاسفة والدهريون ـ خذلهم الله تعالى ـ وكلما أكثر من ذلك بعد عن الله. ولا يزال المقبل على ذلك يستغويه الشيطان بما يكتسب من العلوم الرباطية أو بما قد يتراءى به من صدق الخاطر وغير ذلك حتى يركن إليه الركون التام ويظن أنه فاز بالمقصود، ولا يعلم أن هذا الفن من الفائدة غير ممنوع من النصارى والبراهمة
وليس هو المقصود من الخلوة بقول بعضهم: إن الحق يريد منك الاستقامة وأنت تطلب الكرامة، وقد يفتح على الصادقين شيء من خوارق العادات، وصدق الفراسة، ويتبـين ما سيحدث في المستقبل، وقد لا يفتح عليهم ذلك، ولا يقدح في حالهم عدم ذلك، وإنما يقدح في حالهم الانحراف عن حد
الاستقامة، فما يفتح من ذلك على الصادقين يصير سبباً لمزيد إبقائهم والداعي لهم إلى صدق المجاهدة والمعاملة والزهد في الدنيا والتخلق بالأخلاق الحميدة
وما يفتح من ذلك على من ليس تحت سياسة الشرع يصير سبباً لمزيد بعده وغروره وحماقته واستطالته على الناس وازدرائه بالخلق، ولا يزال به حتى يخلع ربقة الإسلام عن عنقه وينكر الحدود والأحكام والحلال والحرام، ويظن أن المقصود من العبادات ذكر الله تعالى ويترك متابعة الرسول ؛ ثم يتدرج من ذلك إلى تلحد وتزندق نعوذ بالله من الضلال، وقد يلوح لأقوام خيالات يظنونها وقائع ويشبهونها بوقائع المشايخ من غير علم بحقيقة ذلك
فمن أراد تحقيق ذلك فليعلم أن العبد إذا أخلص لله وأحسن نيته وقعد في الخلوة أربعين يوماً أو أكثر؛ فمنهم من يباشر باطنه صفو اليقين ويرفع الحجاب عن قلبه ويصير كما قال قائلهم: رأى قلبـي ربـي، وقد يصل إلى هذا المقام تارة بإحياء الأوقات بالصالحات وكف الجوارح وتوزيع الأوراد من الصلاة والتلاوة والذكر على الأوقات، وتارة يبادئه الحق لموضع صدقه وقوة استعداده مبادأة من غير عمل وجد منه، وتنارة يجد ذلك بملازمة ذكر واحد من الأذكار لأنه لا يزال يردد ذلك الذكر ويقوله، وتكون عبادته الصلوات الخمس بسننها الراتبة فحسب، وسائر أوقاته مشغولة بالذكر الواحد لا يتخللها فتور، ولا يوجد منه قصور، ولا يزال يردد ذلك الذكر ويقوله، وتكون عبادته الصلوات الخمس بسننها الراتبة فحسب، وسائر أوقاته مشغولة بالذكر الواحد لا يتخللها فتور، ولا يوجد منه قصور، ولا يزال يردد ذلك الذكر ملتزماً به حتى في طريق الوضوء وساعة الأكل لا يفتر عنه .