3- قال مولانا الشارح ابن عجيبة في كتابه (البحر المديد في تفسير القرآن المجيد) :
" يقول الحق جلّ جلاله: { إِنَّا أنزلناه في ليلة القدر } ، نوّه بشأن القرآن، حيث أسند إنزاله إليه بإسناده إلى نون العظمة، المنبىء عن كمال العناية به، وجاء بضميره دون اسمه الظاهر للإيذان بغاية ظهوره، كأنه حاضر في جميع الأذهان،
وقيل: يعود على المقروء المأمور به في قوله: { ٱقْرَأْ } [العلق:1] فتتصل السورة بما قبلها.
وعظَّم الوقت الذي أنزله فيه بقوله: { وما أدراك ما ليلةٌ القَدْر } لِما فيه من الدلالة على أنَّ علو قدرها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يدريها إلاّ علاَّم الغيوب، كما يُشعر به قوله تعالى: { ليلةُ القدر خيرٌ من ألف شهرٍ } أي: ليس فيها ليلة القدر، فإنه بيان إجمالي لشأنها إثر تشويقه صلى الله عليه وسلم إلى درايتها، فإنَّ ذلك مُعْرِب عن الوعد بإدرائها على ما تقدّم. وفي إظهار ليلة القدر في الموضعين من تأكيد التفخيم ما لا يخفى.
والمراد بإنزاله: إمّا إنزاله كله إلى سماء الدنيا، كما رُوي أنه أنزل جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم نزل نجوماً في ثلاثٍ وعشرين سنة، وإمّا ابتداء نزوله،وهو الأظهر. وسُميت ليلة القدر لتقدير الأمور فيها، وإبراز ما قضى تلك السنة، لقوله تعالى: { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) } [الدخان:4]، فالقَدْر بمعنى التقدير، أو لشرفها على سائر الليالي، فالقَدْر بمعنى الشرف، وهي ليلة السابع والعشرين من رمضان على المشهورِ. لما رُوي أنَّ أُبي بن كعب كان يحلف أنها ليلة السابع والعشرين، وقيل غير ذلك ومظان التماسها في الأوتار من العشر الأواخر.
ولعل السر في إخفائها تعرض مَن يريدها للثواب الكثير بإحياء الليالي في طلبها، وهذا كإخفاء الصلاة الوسطى، واسمه الأعظم، وساعة الجمعة، ورضاه في الطاعات، وغضبه في المعاصي، وولايته في خلقه ليحسن الظن بالجميع.
وتخصيص الألف بالذكر إمّا للتكثير، أو لما رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المؤمنون وتقاصرت إليهم أعمالهم، فأُعطوا ليلةَ القدر هي خيرٌ من عمل ذل الغازي.
وقيل: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أري أعمار الأمم كافة، فاستقصر أعمار أمته، فخاف ألاّ يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم، فأعطاه الله ليلة القدر، جعلها خيراً من ألف شهر لسائر الأمم.
وقيل: كان مُلك سليمان خمسمائة شهر، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر، فجعل الله هذه الليلة لِمن قامها خيراً من ملكيهما.
ثم بيّن وجه فضلها، فقال: { تَنزَّلُ الملائكةُ والروحُ فيها } ، والروح إمّا جبريل عليه السلام، أو خلق من الملائكة لا تراهم الملائكة إلاّ تلك الليلة، أو الرحمة. والمراد بتنزلهم: نزولهم إلى الأرض يُسلمون على الناس ويؤمِّنون على دعائهم، كما في الأثر.
وقيل: إلى سماء الدنيا. وقوله: { بإِذنِ ربهم } يتعلق بـ " تنزلُ " ، أو بمحذوف هو حال من فاعله، أي: ملتبسين بأمر ربهم، أو: ينزلون بإذنه، { من كل أمرٍ } أي: من أجل كل أمر قضاه الله تعالى لتلك السنة إلى قابل، رُوي أنَّ الله تعالى يُعْلِم الملائكة بكل ما يكون في ذلك العام كله،
وقيل: يَبرز ذلك مِن علم الغيب ليلة النصف من شعبان، ويُعْطَى الملائكةً ليلة القدر، فلما كان أهم نزولهم هذا الأمر جعل نزولهم لأجله، فلا ينافي كون نزولهم للتسليم على الناس والتأمين، كما قال تعالى: { سلامٌ هيَ } أي: ما هي إلاَّ سلام على المؤمنين، جعلها نفس السلام لكثرة ما يُسلِّمون على الناس، فقد رُوي أنهم يُسلِّمون على كل قائم وقاعد وقارىء ومُصَلِّ،
أو: ما هي إلاِّ سلامة، أي: لا يُقَدِّر الله تعالى فيها إلاّ السلامة والخير، وأمّا في غيرها فيقضي سلامةً وبلاء, وقال ابن عباس: قوله: (هي) إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين؛ لأنّ هذه الكلمة هي السابعة والعشرون من كلمات السورة.
ثم ذكر غايتها، فقال: { حتى مطلَعِ الفجر } أي: تنتهي إلى طلوع الفجر، أو: تُسلِّم الملائكة إلى مطلع الفجر، أو: تنزل الملائكة فوجاً بعد فوج إلى طلوع الفجر. و " مَطْلَع " بالفتح: اسم زمان, وبالكسر مصدر، أو اسم زمان على غير قياس؛ لأنّ ما يضم مضارعه أو يفتح يتحد فيه الزمان والمكان والمصدر، يعني " مَفْعَل " في الجميع.
الإشارة: أهل القلوب من العارفين، الأوقاتُ كلها عندهم ليلة القدر، والأماكن عندهم كلها عرفات، والأيام كلها جمعات، لأنّ المقصود من تعظيم الزمان والمكان هو باعتبار ما يقع فيه من التقريب والكشف والعيان، والأوقات والأماكن عند العارفين كلها سواء في هذا المعنى، كما قال شاعرهم:
لولا شهود جمالكم في ذاتي = ما كنت أرضى ساعة بحياتي
ما ليلةُ القدر المعظَّم شأنها = إلاَّ إذا عمرَتْ بكم أوقاتي
إنَّ المحب إذا تمكّن في الهوى = والحب لم يحتج إلى ميقات
لولا شهود جمالكـم فـي ذاتـي
ما كنت أرضى ساعة بحياتـي
ما ليلـةُ القـدر المعظَّـم شأنهـا
إلاَّ إذا عـمـرَتْ بـكــم أوقـاتــي
إنَّ المحب إذا تمكّن في الهوى
والحب لـم يحتـج إلـى ميقـات
وقال آخر:
وكل الليالي ليلةُ القدر إن بدا = كما كلُّ أيام اللقا يومُ جمعةِ
وسعيٌ له حجٌّ، به كلُّ وقفةٍ = على بابه قد عادلت ألف وقفةِ
وكل الليالي ليلةُ القدر إن بـدا
كما كلُّ أيام اللقـا يـومُ جمعـةِ
وسعيٌ له حجٌّ، بـه كـلُّ وقفـةٍ
على بابه قد عادلت ألف وقفةِ
وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: نحن ـ والحمد الله ـ أوقاتنا كلها ليلة القدر. اهـ. لأنَّ عبادتهم كلها قلبية، بين فكرة واعتبار، وشهود واستبصار، و " فكرة ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة " ، كما في الأثر، بل فكرة العيان تزيد على ذلك، كما قال الشاعر:
كلُّ وقت من حبيبي = قَدْرُه كألف حجه
كلُّ وقت من حبيبي قَـدْرُه كألـف حـجـه
وقد يقال: ثواب هذه العبادة كشف الحجاب, وشهود الذات الأقدس هو لا يقاس بمقياس. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله." اهـ
(يتبع إن شاء الله تعالى مع أقوال عرفانية أخرى من التفسير الإشاري .... )