قال تعالى <<إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا >>.
قال سيدي محمد الحافظ :الأمانة لابد أن تكون شيئا خاصا بمن يحمله لا يشترك معه أحد من الخلق فيه .وليس في الملك ما في البهيمة من غرائز والجن وإن اشترك في التكليف مع الإنسان لكن ليس فيه المادة الكثيفة التي في الإنسان ...فجمع الله في الإنسان بين النشأة الروحية الصافية وبين الغرائز البهيمية والكثافة المادية ...وقد اختلف العلماء في تفسير المقصود بالأمانة ، فمن قائل إنها التكاليف الشرعية ومن قائل إنها الطاعة من حيث إنها واجبة الأداء ومن قائل إنها الصلوات أو الفرائض والحدود أو الصوم والصلاة والإغتسال من الجنابة ومن قائل إنها المرأة اؤتمنت على فرجها إلى غيرها من الأقوال .
فالتكاليف الشرعية والطاعة والصلوات والفرائض والصوم هذه لا اختصاص للإنسان بها ،لأن الجن مكلفون فهم مشتركون مع الإنسان في التكاليف والملائكة في تكليفهم خلاف .
وإذا قيل الشهوة فكذلك لا يصح لأن الجن والحيوان يشترك مع الإنسان فيها فلا اختصاص له بها .والذي نراه أن الأمانة هي الخلافة عن الحق تبارك وتعالى كما قال تعالى << إني جاعل في الأرض خليفة >>
فاستعداد الملائكة في الخلقة لا يستطيع تحمل الخلافة لأن الملائكو ليس فيها عنصر الشهوة والإختيار وكانت تحسب أنها أحق بها من الإنسان .
والنبات والحيوان ليس فيه عنصر الإختيار ولا الروحانية الملكوتية
والجن وإن اشترك مع الإنسان في التكليف وعنصر الشهوة إلا أنه الإنسان فيه ما ليس في الجن فالحجب في الإنسان أكثر منها في الجن .
وقد جمع الله في الإنسان ما تفرق في جميع العوالم فللروح الإنسانية رداء في كل عالم يناسبه وأخر رداء هو رداء المادية .وحقيقة الخلافة هي المرتبة الجامعة التي تشمل مزايا مراتب الوجود بحذافيرها ويدخل فيها الجن فإنهم تابعون للإنسان وأرسلت إليهم الرسل من الإنس فمرتبة الإنسان الكامل لها الهيمنة على عالم الجن .
فالخلافة روح كاملة تخلصت من جميع هذه الأردية المادية وغير المادية وتحققت بكل ما في عوالم الأرواح من كمالات وفي صورة بشرية تحققت بكل ما في البشرية من كمالات فلم تعقها العلائق والعوائق المادية وغير المادية عن الوصول إلى محبوبها من له الكمال الأعلى تبارك وتعالى فأخلصت له عبادة الحق وذلك بتحقيق العبودية الكاملة له وحده عز شأنه فإذا من الله عليها بمخالطتها أحداث الدنيا خالطتها بالله لا بنفسها وبأمر الله وحده .
والخليفة يسبح الله بتسبيح الكون كله من ملك وإنس وجن وحيوان ونبات وجماد والإنسان يسبح الله في سائر العوالم كل عالم بالرداء الذي يناسبه فإذا سبح ربه سبحت روحه في كل العوالم وإن كان لا يشعر ولا يزال من البشر في كل العصور من تتحقق فيه مرتبة الخلافة التي ترضي الله وتحقق بالفعل الكمالات الحقية التي لها خلق الإنسان ليجمع الكمالات القدسية والكمالات البشرية .
فالخليفة فيه الإستعداد لأن يكون نبيا ورسولا ووليا .
وتخصيص الإنسان بحمل الأمانة نعمة ومنة من الحق سبحانه عليه ومن شكر لله عز وجل فقد سما إلى المكانة التي أحبها الله خاصة عباده فكان من المفلحين .فهي المرتبة الخصوصية التي يمتاز بها الطائعون والمؤدون لشكر الله كما ينبغي .
وقد كفر بهذه النعمة من كفر فسقط عن الرتبة السامية التي أعده الله سبحانه لها .
والإنسان الظلوم الجهول هو الذي لم يرع حق نعمة الأمانة وأما الصالح الذي يرعاها فليس بظلوم ولا جهول كالأنبياء ومن تبعهم .فليس الأنبياء ولا الصالحون من الظالمين الجاهلين ولكن يراد به من كان ظلوما جهولا بعدم شكر هذه النعمة.وهذا كقوله تعالى << إن الإنسان لظلوم كفار >> بعد تعداد نعم الله عليه
وعرض الأمانة على السموات والأرض والجبال هو كقوله تعالى <<وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة >> فكلم الله الملائكة والسموات والأرض والجبال وهو أعلم بهم وكقوله تعالى << وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة >> وعرضها على السموات والأرض والجبال عرضها عليها بما فيها فأبين أن يحملنها واعتذرن عن حمل أعباء الخلافة لأنها لا تطيقها وليس فيها الإستعداد لحملها
وإنما كان العرض والإعتذار ليظهر الله تعالى فضله على الإنسان بأن جعل فيه الإستعداد لحمل هذه النعمة العظمى الخلافة عن الحق تبارك وتعالى .
--------------------------------------------------------------------------------