البيت الحرام
{ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ }
سبحانه إختص أم القرى ببيته وجعل من أرضها مقرا حواه
واختص بالإسلام منها نبيا وبرسالة الحق شـرفه وولاه
وجعل من جبريل رسولا وبالحق أنزله للعالمين مفازة ونجاه
وجعـل بيته مثابة للناس وأمنـا وبالمهابة وبالتعظيم حبـاه
وجعلـه مقصدا لعباده ولمن سمع من الخليـل نـداه
وجعـل جزاء من طافه وعظمه وأقبل عليه أن أقبل عليه مـولاه
والصلاة والسلام على البشير محمد المنير لطريق الحجيج بهــداه
عندما تهل علينا أيام الحج المباركة تتحرك في قلوب المسلمين ذكرى بناء البيت الحرام ، وتمر بنا الأيام والسنون ويذهب الحجيج ويعودون دون أن نسأل أنفسنا متى أذن في الناس بالحج ؟ ومتى فرض الحج ؟ وكيف تعلمنا مناسك الحج وأدلتها ؟ .
وإذا كان العلم هو الأصل في كل عمل يعمله المرء فيجب أن يعلم ما هو مقبل عليه من عبادة فعمل قليل في علم خير من عمل كثير في جهل ، فمن يذهب لأداء مناسك الحج يجب أن يعلم ماهو مقدم عليه ليستشعر حلاوة ذلك فيعلم قصة البيت الذى سيطوف من حوله ويعلم كيف بدأت المناسك التى سيؤديها .
فتعالوا بنا نعيش مع نسائم تلك الأيام المباركة فنتعرف على إجابات تلك الأسئلة ليقر في وجداننا أن الحج حين فرضه الله كان فيه سعادة لنا في الدارين الدنيا والآخرة .
إن قصة بناء البيت الحرام مرتبطة بآدم عليه السلام وقصة استخلاف الله له فى الأرض يقول أبو الوليـد الأزرقي ـ وهـو مـن المؤرخين القدامى ـ في كتابه أخبار مكة عن سعيد بن المسيب أنه قال : قال كعب الأحبار :
(( قبل أن يخلق الله السموات والأرض بألفى عام خلق الله موضع البيت العتيق كانت الكعبة غثاء على الماء قبل أن يخلق الله عز وجل السماوات والأرض بأربعين سنة ومنها دحيت الأرض لقوله تعالى فى سورة النازعات30 :
(( وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ))
وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال :
(( لما كان العرش على الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض بعث الله تعالى ريحا هفافة فصفقت الماء فأبرزت عن خشفة فى موضع هذا البيت كأنها قبة فدحا الله الاراضين من تحتها فمادت ثم مادت فأوتدها الله تعالى بالجبال فكان أول جبل وضع فيها أبو قبيص فلذلك سميت مكة أم القرى)) .
وفى رواية عن محمد بن على بن الحسين قال :
(( كنت مع أبى على بن الحسين بمكة فينما هو يطوف بالبيت وأنا وراءه إذ جاء رجل طويل فوضع يده على ظهر أبى فالتفت أبى إليه فقال الرجل : السلام عليك يا ابن بنت رسول الله إنى أريد أن أسألك فقال له أبى عما تسأل ؟ فقال : أسألك عن بدء هذا الطواف بالبيت لم كان وأنى كان وحيث كان وكيف كان ؟ فقال له أبى نعم من أين أنت ؟ قال من أهل الشام ـ قال أبى : يا أخا أهل الشام إحفظ عنى ولا تروين عنى إلا حقا ، أما بدؤ هذا الطواف بالبيت فان الله تبارك وتعالى قال للملائكة :
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)
فقالت الملائكة أى رب أخليفة من غيرنا ممن يفسد فى الأرض ويسفك الدماء ويتحاسدون ويتباغضون ويتباغون أى رب اجعل ذلك الخليفة منا فنحن لانفسد فيها ولا نسفك الدماء ولا نتباغض ولا نتحاسد ولا نتباغى ، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ونطيعك ولا نعصيك فقال الله تعالى :
( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )
قال : فظنت الملائكة أن ما قالوا ردا على ربهم عز وجل وأنه قد غضب من قولهم فلاذوا بالعرش ورفعوا رؤوسهم وأشاروا بالأصابع يتضرعون ويبكون إشفاقا لغضبه وطافوا بالعرش ثلاث ساعات ، فنظر الله إليهم فنزلت الرحمة عليهم فوضع الله تعالى تحت العرض بيتا على أربع أساطين من زبرجد وغشاهن بياقوتة حمراء وسمى ذلك البيت بالضراح ، ثم قال الله تعالى للملائكة ، طوفوا بهذا البيت ودعوا العرش ، قال : فطاف الملائكـة بالبيـت وتركوا العرش وصار اهو ن عليهم من العرش وهو البيت المعمور الذى ذكره الله عز وجل يدخله كل يوم وليلة سبعون ألف ملك لا يعودون فيه أبدا ، ثم أن الله سبحانه وتعالى بعث ملائكته فقال لهم ابنوا لى بيتا فى الأرض بمثاله وقدره فأمر الله سبحانه من فى الأرض من خلقه أن يطوفوا بهذا البيت كمـا
يطوف أهل السماء بالبيت المعمور ، فقال الرجل : صدقت يابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هكذا كان . ))
وروى عن عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه قال :
(( أن الله تعالى لما تاب على آدم عليه السلام أمره أن يسير إلى مكة فطوى له الأرض فلم يضع قدمه فى شئ من الأرض إلا صار عمرانا وبركة حتى انتهى إلى مكة ، وكان من قبل ذلك قد اشتد بكاؤه وحزنه لما كان فيه من عظم المصيبة لخروجه من الجنة ، حتى كانت الملائكة لتحزن لحزنه وتبكى لبكائه فعزاه الله بخيمة من خيام الجنة ووضعها له بمكة فى موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة ، فلم تزل خيمة آدم عليه السلام مكانها حتى قبض آدم ورفعها الله تعالى .
ثم بعد أن قبض الله آدم عليه السلام بني أبناء آدم مكان الخيمة بيتا بالطين والحجارة فلم يزل معمورا يعمرونه هم ومن بعدهم حتى كان زمن نوح عليه السلام فنسفه الغرق وخفي مكانه .
فلما بعث الله تعالى إبراهيم خليله عليه السلام بحث عن أساس الكعبة فلما وصل إليه ظلل الله تعالى مكان البيت بغمامة تظلل إبراهيم وتهديه إلى مكان القواعد حتى رفع الله القواعد قامة ثم انكشفت الغمامة فأمره الله بإعداد مكان البيت للصلاة وذلك قوله جل وعلا في سورة الحج 26 :
((وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي
شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ))
ولم يزل بيت الله الحرام بحمد الله منذ رفعه معمورا )) .
ويروى محمد ابن اسحق عن ابن أبى نجيح عن مجاهد :
(( أن الله تعالى لما بوأ لإبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام وخرج معه ابنه إسماعيل وامه هاجر وإسماعيل طفل يرضع ، ومعه جبريل عليه السلام يدله على موضع البيت ومعالم الحرم فخرج وخرج معه لا يمر إبراهيم بقرية من القرايا ـ أى القرى ـ إلا قال : يا جبريل أبهذا أمرت فيقول له جبريل عليه السلام : إمض حتى قدم مكة وبها ناس يقال لهم العماليق خارجا من مكة وفيما حولها والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة ، فقال إبراهيم لجبريل : أهاهنا أمرت أن أضعهما ؟ فقال : نعم قال : فعمد بهما إبراهيم إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا ثم قال :
(( رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ
رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ
وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون َ)) ( إبراهيم 37 )
ثم انصرف إلى الشام وتركهما عند البيت الحرام . ))
ويروى سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس قال : لبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث ثم جاء فوجد إسماعيل عليه السلام قاعدا يبرى نبلا له فسلم عليه وقعد معه فقال إبراهيم : يا إسماعيل إن الله تعالى قد أمرنى بأمر فقال له إسماعيل : فأطع ربك فيما أمرك فقال إبراهيم : يا إسماعيل أمرنـي ربـى أن
أبني له بيتا ، قال له إسماعيل : أين ؟ يقول بن عباس : فأشار له إلى أكمة مرتفعة على ماحو لها عليها رضراض من حصباء يأتيها السيل من نواحيها ولا يركبها فقاما يحفران عن القواعد ويحفرانها ويقولان : ربنا تقبل منا إنك سميع الدعاء ، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، وذلك قول الله تعالى فى سورة البقرة 127 : (( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم ُ))
ويحمل إسماعيل الحجارة على رقبته ويبنى إبراهيم عليه السلام فلما إرتفع البناء وشق على الشيخ إبراهيم تناوله قرب له إسماعيل حجرا فكان يقوم عليه ويبنى ويحوله فى نواحى البيت حتى انتهى إلى وجه البيت .
يقول ابن عباس : ( فلذلك سمى مقام إبراهيم لقيامه عليه )
وعن ابن إسحق أنه قال : لما انتهى إبراهيم عليه السلام إلى موضع الركن الأسود قال لإسماعيل : يا إسماعيل ابغنى حجرا أضعه هاهنا يكون للناس علما يبتدئون منه الطواف ، فذهب إسماعيل يطلب له حجرا ورجع وقد جاءه جبريل بالحجر الأسود وكان الله عز وجل استودع ذلك الحجر جبلا يسمى أبا قبيس حين اغرق الله الأرض زمن نوح عليه السلام وقال للجبل إذا رأيت خليلى يبنى بيتى فأخرجه له . قال فجاء إسماعيل فقال له : يأبى من أين لك هذا ؟ قال جاءنى به من لم يكلنى إلى حجرك ، جاء به جبريل ، فلما وضع جبريل الحجر فى مكانه وبنى عليه إبراهيم وهو حينئذ يتلألأ تلألؤا من شدة بياضه فأضاء نوره شرقا وغربا ويمينا وشمالا ، قال : فكان نوره يضئ إلى منتهى أنصاب الحرم من كل ناحية من نواحى الحرم .
وروى فى الخبر من حديث ابن عباس رضى الله عنهما قال:
(( أن الحجر الاسود ياقوتة من يواقيت الجنة وأنه يبعث يوم القيامة
له عينان ولسان ينطق به ويشهد لكل من إستلمه بحق وصدق ))
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله كثيرا وقبله عمر رضى الله عنه ثم قال إنى لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أنى رأيت رســول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ثم بكى حتى علا نشيجه فالتفت وراءه فرأى عليا كرم الله وجهه ورضى الله عنه فقال يا أبا الحسن ههنا تسكب العبرات وتقبل الدعوات فقال على رضى الله عنه : يا أمير المؤمنين بل هو يضر وينفع قال : كيف ؟ قال : إن الله تعالى لما أخذ الميثاق على الذرية ـ أى
ذرية آدم ـ كتب عليهم كتابا ثم ألقمه هذا الحجر فهو يشهد للمؤمن بالوفاء ويشهد على الكافر بالجحود قيل فذلك هو معنى قول الناس عند الاستلام : اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك . هذا ما كان من أمر بيت الله الحرام .