دراسات في التصوف ، في الشأن العام و الخاص: ( مقدمات)
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد و على آله و صحبه ، وبعد
المستقيل عن شان المؤمنين العام ، المستغرق في مواهبه و لطائفه و أسراره ، أمره خاص.
و المشارك في هموم أمته ، متبع للحبيب صلى الله عليه وسلم ، في امره الخاص و العام.
فمن هو الكامل في أتباعه ؟
القاعد أم القائم ؟.
المستقيل عن أمر المسلمين العام ، أم الحامل لأمرها الدعوي و السياسي و التربوي و التعليمي؟
ومن الأحق في الإتباع و الإقتداء؟
يتحمل بعض الصوفية و ليس جلهم السبب الرئيسي في أعراض بعض المريدين عن خذمة أمة الحبيب صلى الله عليه وو سلم.ذالك أن الخذمة أقتصرت في مفهومهم الخاص ، خذمة الشيخ و أبناء الشيخ و أحفاذ الشيخ و طينة الشيخ ، في حين أن الخذمة و الفتوة و حمل الرسالة و الذوذ عنها ، أكبر من مصطلح التصوف نفسه.
فهي من خصال المؤمنين الحملة الفعلة الدعاة حاملي مشكاة النبوة ، بالدعوة و الموعظة الحسنة ، لا بالقعود عن المهام الجسام التي تنتظرها الأمة ، من مجاهدي الأمة المنصورين عند الله ، القائمين بالقسط ، بالتؤدة و التريث و الأناة و الحزم ، والتصورالكامل في كليات الدين لا في جزئياته.
ما معنى خذمتي للحبيب صلى الله عليه وسلم ؟.
ما وظيفتي الحالية ؟ وما مهامي الخاصة و العامة ؟.
أن كان التصوف قعود ، فأن الأمير المجاهد الملك صلاح الدين الأيوبي لم يكن قاعدا، و قد ذاق من كلام القوم معنى وفعلا لا قعودا ، فكان جهاده رحمة و رفق ، وشدة و غلظة ، في حكمة و علم قل نظيرها بشهادة العدو و الصديق.
و عليه ، فأن الشأن الخاص المفضي الى القعود نوع من الفضل و ليس الفضل كله ، كما أن الجهاد في الشأن العام قمة الفضائل ، لكنه يصير وثنا أن كان المجاهد تحكمه الساحة ، لامنازلة النفس تتحكم فيه الحماسة لا التربية ، و الأندفاع و الشرة لا الفعل السني الدقيق في الخلوة و الجلوة.
فالنتيجة معادلة متناقضة ، كيف أجمع بين النقيضين ، الجهاد و التربية.؟
و هل يستحيل الجمع بين الأمرين أم أنه ممكن؟.
تعال ، نقرأ و نبحث عبر المسيرة التاريخية عن نماذج حملت الدعوة و التربية و الجهاد.
نسال الله التوفيق.
1.في النقل والعقل و الإرادة:
أ.في النقل:
لكل أمة نص تحتكم أليه ن تتوارثه عبر الأجيال، وله في قلبها و روحها قدسية تامة كاملة، فالنصارى يحتكمون إلى أناجيلهم،و اليهود إلى تلمودهم ، و المسلمون الى القرآن و السنة.
ما من أمة ألا و أنتجت في تفاعلها مع النص أجتهادا و حكما و حقيقة ،وعلى قدر حقائقها تكون في عزة و منعة ، وقد يكون سببا في أندحارها ، إن عاشت على أطلال ماضيها لا تنظر إلى أجتهادها بعين فاحصة.
من مميزات النقول التي بين أيدينا ، أنها وصلتنا بالسند و الرواية كابرا عن كابر، أجتهد علمائنا ممن سبقونا في فحصها خصوصا السنة النبوية ، فميزوا ضعيفها عن صحيحها ، والمكذوب فيها ، بعلم الدراية والرواية و الجرح و التعديل ، فأجتمعت الأمة على صحاح الكتب ،لايراودها الشك فيها ،أما القرآن فهو حبل ممدود لم يتغير منه حرف ، ولم يشذ عن هذه القاعدة سوى الشيعة الروافض منهم خصوصا، ولم يكن الزيدية إلا استثناءا فيهم.
لإان كان النقل بين ايدينا ربانيا و نبويا في التبليغ، لم لم نرقى به اإلى ذرى المنعة كما كا الرعيل الأول من تربى على يد الحبيب صلى الله عليه وسلم؟.
ب.في العقل:
كل أمة تتفاعل مع نصها ، و باجتهادها تحيى و تموت ، فأما يكون أجتهادها على بصيرة وهدى ، فتحتكم إلى منهاج يحدد كليات الدين في فقه جامع يجمع المقاصد والمطالب ، فتعرف علاقة الدعوة مع الدولةة ،ومهام رجال الدعوة في مراقبتهم للدولة، في أجتهاد جماعي و فردي ، تحت جناح أمام مصحوب لا تنفك وظيفته التربوية عن مهاماته الجهادية ، تنقاد أليه الأمة و تصاحبه في رحمة و طاعة أو هدى، فتصب العقول و الجهود على حفظ الأمة من الضياع.
وأما تتفاعل مع النص في هوى جانح و عصبية جاهلية و تقاليد في السلطان ، فيكون انقلاب الدولة على الدولة فتكمم الأفواه و يغلق باب الإجتهاد ، و تنفرط عرى الأسلام عروة عروة ، كما عاشته الأمة في صدمتها الأولى بالأنقلاب الأموي على الحكم ، وتقويض البناء من الخلافة الى الحكم الوراثي.
ج.في الإرادة:
أرادة الأمم رهينة بأرادة ابنائها ، فبأي أرادة تطبق النص و بأي عقل تجتهد فيه؟
أجتهد علمائنا فيما سبق ، فأورثونا مكاسبا ثمينة ، في التربية و الفقه و الأصول و العلوم و الحديث النبوي.
أجتهدوا في عصرهم بتفاعلهم مع معطيات زمانهم، فهل ما وصلنا من الإجتهادات وهي نصوص بشرية أجتهدت في تدبر النصوص القرآنية ، مقدسة؟.
أم ينقصنا ذالك المفتاح الجامع لتلك الإجتهادات ، وذاك الفقه المنهاجي ، لتلك الإرادات ، فينير عقولنا إلى منبع الداء من أين ابتدأ ؟ ومتى انحرف المجتمع الأسلامي في حركيته و تفاعله؟ ومتى استفحل التفتت ؟ و أغلق باب الإجتهاد؟ ومتى كانت الفتنة فتنة و الجاهلية جاهلية ؟ و لم تقاعس رجال الدعوة وهربوا من الميدان لما تسلط الحاكم على رقاب المسلمين ؟
فهل نحاكم تلك الإرادات أم نفهم لم تصرفت بتلك الطريقة ، ومن يتحمل عواقب الإرث التاريخي و السياسي؟
و كيف نحدد اجتهادنا و طريقنا في الأصلاح؟
بالقعود في التربية و العرفان وحده، أم بالتربية و الجهاد؟.
د.خلاصة أولية :
يخلص القارئ الى نتائج بمجرد ما يضع النص و العقل و الإرادة في معادلة مترابطة متجانسة ، بمجرد ماأقرأ النص يتولد عن التدبرفهما ، ثم عملا و سلوكا.ومن ثم يستنتج عند دراسته لمسيرة المسلمين ، أن النص الخاذم لهوى القلب كان سلطانا ، وحاكما على سلوك الأقدمين ، الصالح منهم و الطالح ، الصوفي و السلفي و الحنبلي و غيره.
فكيف نتجاوز هوى القلب ، وحب المشرب ، لنرقى الى المشرب المحمدي الصافي الكامل ؟
نسال الله التوفيق.
2. صدمتان قاسيتان:
أ.في رحاب النبوة والخلافة:
نشا المسلمون في المسجد في كنف التربية النبوية ، بتوجيه الوحي الرباني فكان الوحي غضا طريا تتلقه القلوب بفطرة سليمة و فقه تام للسان العربي المبين.عرف حينها الرعيل الأول معنى التربية و الجهاد و الوحدة وسمو الدعوة على الدولة ، ومعنى الرحمة و التريث في البناء ،
فكانوا كما وصفهم القرآن رحماء بينهم اشداء على من عاداهم.
وقبض الحبيب صلى الله عليه وسلم و اختار الرفيق الأعلى ، فكانت الصدمة و المصيبة ، أنقطع حبل الأرض بالسماء و انتهى الوحي.
ثم كانت الوراثة و النيابة و الخلافة عن الله و رسوله صلى الله عليه وسلم في أبي بكر ثم عمر رضي الله عنه ،ثم كسر باب العدل بموته رضي الله عنه ، ثم كانت الفتنة مع عثمان ذي النورين رضي الله عنه ، ثم استفحلت بمقتله وولاية مولانا علي ابن ابي طالب عليه السلام ،
ثم كان الأنقلاب الأموي.
وصلتنا التربية النبوية بالسند الروحي أو بالسلسلة النورانية ، وقد تفوق فيها أهل الله الصوفية.
كما نبغ أهل الحديث في حفظهم للهدي النبوي ، فوصلنا عن الطريق السند الصحيح، ومتى اجتمع السند القلبي الروحي و السند العلمي ، كان صاحبه مرشحا بل كاملا في الأتباع.
ب.صدمتان قاسيتان:
اشار الشيخ عبد السلام ياسين الى هتين الصدمتين في كتابه الحواري ، الإسلام و القومية العلمانية قائلا :
(تاريخ المسلمين حافل، ربما أكثر من تاريخ أي أمة، بالاصطدامات والحروب الداخلية والنكبات : ثورات داخلية، احتلال صليبي دام مائة عام، غزو التتار والمقاتل الهائلة، الانحسار من الأندلس... الخ.
لكن صدمتان في تاريخنا كان لهما ولا يزال الأثر البالغ في نفوس المسلمين توارثته الأجيال، والأثر البالغ في وجهة المسلمين، إنهما أعظم التحديات في تاريخنا.
أما الصدمة الأولى فانكسار الوحدة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وما نتج عن تلك الفتنة المؤلمة من قتال بين الصحابة، وما تلا ذلك من تمزق الجماعة، إذ ظهرت الخوارج وتسلسلت إلى طوائف شغلت بحروبها المسلمين قرونا، وظهرت مطالبات آل البيت عليهم السلام وقوماتهم منذ قيام الإمام الحسين عليه السلام. ولم يكن مقتله الفاجع أقل وجوه تلك الفتنة قتامة، فتميزت الشيعة وتسلسلت مذاهبهم ومقاومتهم. كان أهم نتيجة لهذه الفتنة تحول نظام الحكم من خلافة على منهاج النبوة إلى ملك عاض. ولم يكن تاريخنا بعدئذ إلا معجزة عظيمة من معجزات التاريخ، نقول بلسان الإيمان : حفظا إلهيا وعناية، إذ استمرت الأمة في الوجود، واستمر الإسلام في انتشار، رغم هذه الشجة المردية في الرأس : ألا وهي فساد الحكم.
لكن هذه الصدمة على فداحتها واستفحال نتائجها على العصور إلى الآن ما لبثت أن استوعبها عقل المسلمين واستساغها وعيهم، فعايش العلماء من أهل السنة والجماعة فساد الحكام باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بوقوع التحول من الخلافة إلى الملك العاض، وسكتوا عن كثير مما كان ينبغي أن يقاوموه تهمما منهم وحفاظا على "بيضة الإسلام" وشوكته وقوته ووحدته أن تنكسر، مهما كانت هذه الشوكة وهذه الوحدة. وعايش الأئمة وشيعتهم نتائج تلك الفتنة في التقية والاستخفاء أو في الانتفاضات بحق كالزيدية، وخاض الأدعياء في الماء العكر مثل المختار الثقفي ودولة الباطل العبيدية.
تلك الفتنة كانت أم الفتن لتبكيرها وهولها. أما الصدمة الثانية التي غطت على الأولى وأيقظت ذكرها في نفس الوقت فهي الاستعمار الغربي، واحتلال الكفار أراضي المسلمين، ذلك الاحتلال الذي بدأ في الجزائر والهند منذ نحو مائة وخمسين سنة وبلغ مداه وأوج فلكه مع قيام دولة اليهود في فلسطين. ).
كتاب الأسلام و القومية العلمانية ، فصل الثراث و التجديد ، فقرة : صدمتان قاسيتان.