أحمد ذوالفقار المشرف العام
عدد المساهمات : 988 تاريخ التسجيل : 27/01/2009
| موضوع: مفهوم الفناء عند سيدي عبدالقادر الجيلاني قدس سره . الأحد فبراير 15, 2009 9:02 am | |
|
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول سيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه:
نـضـرب لـك مـثـلاً فـى الـفـنـاء فـنـقـول: ألا تـرى أن الـمـلـك يـولـى رجـلاً مـن الـعـوام ولايــة عـلـى بـلـدة مـن الـبـلاد، و يـخـلـع عـلـيـه و يـعـقـد لـه ألـويـة و رايـات، و يـعـطـيـه الـكـؤوس و الـطـبـل و الـجـنـد فـيـكـون عـلـى بـرهـة مـن الـزمـان، حـتـى إذا اطـمـأن و اعـتـقـد بـقـاءه و ثـبـاتـه، و عـجـب بـه و نـســي حـالـتـه الأولـى و نـقـصـانـه و ذلـه و فـقـره و خـمـولـه، و داخـلـتـه الـنـخـوة و الـكـبـريـاء جــاءه الـعـزل مـن الـمـلـك فـى أشــر مـا كـان مـن أمـره، ثـم طـالـبـه الـمـلـك بـجـرائـم صـنـعـهـا و تـعـدى أمـره و نـهـيـه فـيـهـا، فـحـبـســه فـى أضـيـق الـحـبـوس و أشــدهـا، و طـال حـبـســه و دام ضـره لـه و ذلـه و فـقـره، و ذابـت نـخـوتـه و كـبـريـاؤه، و انـكـســرت نـفـســه و خـمـدت نـار هـواه، و كـل ذلـك فـى عـيـن الـمـلـك ثـم تـعـطـف الـمـلـك عـلـيـه فـنـظـره بـعـيـن الـرأفـة و الـرحـمـة، فـأمـر بـإخـراجـه مـن الـحـبـس و الإحـســان إلـيـه، و الـخـلـعـة عـلـيـه و ردَّ الـولايـة إلـيـه و مـثـلـهـا مـعـهـا و جـعـلـهـا لـه مـوهـبـة، فـدامـت لـه و بـقـيـت مـصـفـاة مـكـفـاة مـهـنـأة و كـذلـك الـمـؤمـن إذا قـربـه الله إلـيـه و اجـتـبـاه فـتـح قـبـالـة عـيـن قـلـبـه بـاب الـرحـمـة و الـمـنـة و الإنـعـام، فـيـرى بـقـلـبـه مـا لا عـيـن رأت و لا أذن ســمـعـت و لا خـطـر عـلـى قـلـب بـشــر، مـن مـطـالـعـة الـغـيـوب مـن مـلـكـوت الـســمـوات و الأرض و تـقـريـب و كـلام لـذيـذ لـطـيـف و وعــد جـمـيـل، و وفـاء بـه، و إجـابـة دعـاء و كـلـمـات حـكـمـة و تـصـديـق وعــد، فـإنـهـا تـرمـى إلـيـه قـلـبـه قـذفـاً مـن مـكـان بـعـيـد فـتـظـهـر عـلـى لـســانـه، و مـع ذلـك يـســبـغ عـلـيـه نـعـمـة ظـاهـرة عـلـى جـســده و جـوارحـه، فـى الـمـأكـول و الـمـشــروب و الـمـلـبـوس و الـمـنـكـوح الـحـلال و الـمـبـاح و حـفـظ الـحـدود و الـعـبـادات الـظـاهـرة، فـيـديـم الله عـزّ و جـلّ ذلـك لـعـبـده الـمـؤمـن الـمـجـذوب بـرهـة مـن الـزمـان، حـتـى اطـمـأن الـعـبـد إلـى ذلـك و اغـتـر بـه و اعـتـقـد دوامـه فـتـح عـلـيـه أبـواب الـبـلايـا و أنـواع الـمـحـن فـى الـنـفـس و الـمـال و الأهـل و الـولـد و الـقـلـب فـيـنـقـطـع عـنـه جـمـيـع مـا كـان أنـعـم الله عـلـيـه مـن قـبـل، فـيـبـقـى مـتـحـيـراً حـســيـراً مـنـكـســراً مـقـطـوعـاً بـه.
إن نـظـر إلـى ظـاهـره رأى مـا يـســوؤه، و إن نـظـر إلـى قـلـبـه و بـاطـنـه رأى مـا يـحـزنـه، و إن ســأل الله تـعـالـى كـشــف مـا بـه مـن الـضـر لـم يـر إجـابـتـه، و إن طـلـب وعــداً جـمـيـلاً لـم يـجـده ســريـعـاً و إن وعــد بـشــئ لـم يـعـثـر عـلـى الـوفـاء بـه، و إن رأى رؤيـا لـم يـظـفـر بـتـعـبـيـرهـا و تـصـديـقـهـا، و إن رام الـرجـوع إلـى الـخـلـق لـم يـجـد إلـى ذلـك ســبـيـلاً، و إن ظـهـرت لـه فـى ذلـك رخـصـة فـعـمـل بـهـا تـســارعـت الـعـقـوبـات نـحـوه و تـســلـطـت أيــدى الـخـلـق عـلـى جـســمـه و ألـســنـتـهـم عـلـى عـرضـه، و إن طـلـب الإقـالـة مـمـا قـد أدخـل فـيـه مـن الـحـالـة الأولـى قـبـل الاجـتـبـاء لـم يـقـل، و إن طـلـب الـرضـا أو الـطـيـبـة و الـتـنـعـم بـمـا بـه مـن الـبـلاء لـم يـعـط فـحـيـنـئـذ يـأخـذ الـنـفـس فـى الـذوبـان و الـهـوى فـى الـزوال و الإرادة و الأمـانـى فـى الـرحـيـل و الأكـوان فـى الـتـلاشــى، فـيــدام لـه ذلـك بـل يـزداد تـشــديـداً و عـصـراً و تـأكـيـداً، حـتـى إذا فـنـي الـعـبـد مـن الأخـلاق الإنـســانـيـة و الـصـفـات الـبـشــريـة و بـقـى روحـاً فـقـط يـســمـع نــداء فـى بـاطـنـه ( أركـض بـرجـلـك هـذا مـغـتـســل بـارد و شــراب ) كـمـا قـيـل لـســيـدنـا أيــوب عـلـيـه الـســلام، فـيـمـطـر الله عـزّ و جـلّ فـى قـلـبـه بـحـار رحـمـتـه و رأفـتـه و لـطـفـه و مـنـتـه، و يـحـيـيـه بـروحـه و يـطـيـبـه بـمـعـرفـتـه و دقـائـق عـلـومـه، و يـفـتـح عـلـيـه أبـواب رحـمـتـه و نـعـمـتـه و دلالـه، و أطـلـق إلـيـه الأيــدى بـالـبـذل و الـعـطـاء و الـخـدمـة فـى ســائـر الأحـوال و الألـســن بـالـحـمـد و الـثـنـاء، و الـذكـر الـطـيـب فـى جـمـيـع الـمـحـال، و الأرجـل بـالـتـرحـال، و ذلـك لـه و ســخـر لـه الـمـلـوك و الأربـاب، و أســبـغ عـلـيـه نـعـمـة ظـاهـرة و بـاطـنـة، تـربـيـتـه ظـاهـرة بـخـلـقـه و نـعـمـه، و يـســتـأثـره تـربـيـتـه بـاطـنـة بـلـطـفـه و كـرمـه، و أدام لـه ذلـك إلـى الـلـقـاء، ثـم يـدخـلـه فـيـمـا لا عـيـن رأت و لا أذن ســمـعـت و لا خـطـر عـلـى قـلـب بـشــر، كـمـا قـال جـلّ و عـلا: فـلا تـعـلـم نـفـس مـا أخـفـى لـهـم مـن قـرة أعـيـن جـزاء بـمـا كـانـوا يـعـمـلـون .
الجيلاني : فتوح الغيب | |
|